للعود مكانة خاصة في قلوب عشاقه في الخليج، وذلك لأسبابٍ تتعلق بأصالة مستخلصاته التي لا يدانيها عطرٌ شرقيٌّ آخر، ولارتباطه بالعادات والتقاليد والموروث الثقافي. ظلَّ العود حاضراً في كلّ المواسم، يعطّر الطقوس الاجتماعية وينثر عبيره بين هبّات نسيمها. ومنذ بداية حكايته عندما أتى محمولاً إلى الجزيرة العربية على قوافل كسرى أنوشروان، ترك آثار عطره وبخوره ودهنه المعتَّق على درب البخور الذي تحوَّل من تاريخٍ إلى مشروعٍ تجاريّ عالمي.
عصارة الزمن
في أماكن وجوده في شرق آسيا، يمكن تخيَّل الطقس الذي تنمو فيه شجرة العود دائمة الخضرة التي يبلغ طول النوع الغالب منها حوالى 20 متراً. فبعد هطول المطر في غابات العود الكثيفة وتناثر زخاته، تأتيك الرائحة وتملأ أجواء المكان. ينمو العود وهو نوع من الأخشاب الثمينة برائحته المميزة في تلك الغابات، وتتكون المادة العطرة التي تُستخلص من داخل أشجار العود الضخمة بفعل بعض أنواع الطفيليات.
وللعود استخداماتٌ وفوائد جمَّة منذ فجر التاريخ، فقلف العود المرتبط باللحاء استخدمه الملوك والرهبان في قديم الزمان وقبل صناعة الورق في مراسلاتهم، كما استُخدم ذات القلف الخفيف للإنسان القديم كملابس في الأدغال ووسط الغابات. أما الخشب الأبيض الخفيف فهو يُستخدم في صناعة الخرز والمسابح وعدد من الأكسسوارات.
أجود أنواع العود هو المندلي نسبة إلى مندل، وهي بلدة هنديَّة، وأجوده منها أصلبه وأمرّه طعماً، ففي قول عمر بن أبي ربيعة: "لمن نار قبيل الصبح عند البيت ما تخبو، إذا ما أوقدت يلقى عليها المندل الرطب".
ومن أنواع العود الأخرى، إضافة إلى الهندي، هناك الكمبودي الذي يأتي من كمبوديا وله شعبيَّة واسعة في دول الخليج، وهناك الأرياني الذي يأتي من إندونيسيا ويتميز برائحته الهادئة. ومن إندونيسيا أيضاً يأتي العود كلمنتان، الذي يتميز بكثافة بخوره وثباته. أما العود الماليزي فيتميز برائحة جذابة.
ويُستخرج دهن العود من القشور المحيطة بخشب العود، إذ يمرُّ بمراحل معقدة من التحضير والتقطير والتصفية لينتج لنا دهن العود بدرجاته الأولى والثانية والثالثة، ثم ماء العود ودهن العود المبخر والمعمول المكون من القشور المتبقية من العمليات السابقة.
عودٌ وماضٍ يعود
ارتبط عطر العود بالتاريخ ارتباط الإنسان بالأرض التي أنجبته وإليها يعود. وكما يُقال "عودٌ وماضٍ يعود"، فهي تعبّر عن هذا الارتباط بالطبيعة حين تغمر الإنسان بفيوضها، فتطلق نداها عطراً وعبقاً شذياً يرحل معه أينما سار دونما تقيد بجغرافيا وحدود. وقد أثبتت الدراسات قدِم عمر شجرة العود، كما أثبتت عدم إمكانيَّة نقلها لزراعتها في تربة ومناخ مغاير للذي تنمو فيه في شبه القارة الهنديَّة. إنسان تلك المنطقة اكتشف هذه الشجرة عندما استخدمها للتدفئة فانبعث عطرها الذي أثاره، كما أثار رواد الدعوة الإسلاميَّة الذين انطلقوا من الجزيرة العربيَّة إلى هناك فبدأت بذلك الهجرة إلى بلاد العود.
وفي تاريخ شبه الجزيرة العربيَّة كانت الأسواق موسميَّة، فما أن تنفض سوق (دومة الجندل) الذي يقع حالياً ضمن منطقة الجوف شمال السعودية وعلى حدود الشام، حتى تبتدئ سوق أخرى هي سوق (هجر) بالبحرين، وفي اتصالها ببلاد الفرس والهند كان يأتي الطِيب محمّلاً على قوافل كسرى أنوشروان ومن أهم ما فيها هو العود، لترجع ملأى بالبضائع والتمور. ولا ننسى شهرة مكَّة المكرَّمة بعطورها، وسوق عكاظ الذي اشتهر بالغالي من الطيب والعطور، وهذا يعكس ولع العرب بالعطور واتخاذهم تجارتها مهنة لهم.
درب البخور
بدأ التجار العرب من شبه الجزيرة العربيَّة في رحلة البحث عن العود في غابات شرق آسيا من غابات إندونيسيا، وماليزيا، وتايلند وتنسب مسميات العود إلى اسم الغابات التي تتم زراعته فيها. وبعد قوافل كسرى ابتدأت قوافلهم في رحلة البحث عن العود حتى سمي الطريق الذي سلكته هذه القوافل بدرب البخور، والمقصود بالبخور هو العود ولا شيء سواه.
إنَّ درب العود وتجارته لا يسلكها أي عابر سبيل في مجال تجارة العطور، فلهذه المهنة أصول مراعاة، فهي تورّث عبر أجيال وعائلات وأسماء سعوديَّة لمعت في سماء التجارة واستطاعت أن تسطِّر أسماءها بأحرف من نور.
العبير العودي
يُعتبر موسم الحج من أكثر المواسم التي يزداد فيها معدل مبيعات العود، وتُحظى مكة المكرَّمة والمدينة المنورة بإقبال كبير على العود وتنامي الطلب على مشتقاته من الدهن والبخور. كما يزداد الطلب عليه في موسم رمضان والأعياد والإجازات، بخاصة إجازات الصيف التي تكثر فيها الزيجات والمناسبات المختلفة.
أما أسواق العطور الحاليَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة فقد أفردت للعود محلات مخصصة، اشتهر روادها بذوقهم المعروف بعشق العود منذ زمن بعيد. وإقبال السعوديين على العطور والبخور والطيب معروف على مرِّ العصور، وتعطُّرهم من العادات القديمة التي لا يبخلون بها على أنفسهم كما على زوارهم في المناسبات السعيدة والأعياد. فعند الزيارات وبعد تناول الضيف الطعام والشاي والقهوة يأتي دور العود ليكون ختام الزيارة كطقسٍ يتمسك به المجتمع في عاداتهم الاجتماعيَّة وتراثهم الحافل بكل ما هو جميل.
خلطات شذى العود
امتاز العود من ضمن العطور الشرقيَّة التي تنتمي إلى فصيلة النبات بالرائحة العبقة، وصمد على مرِّ العصور في مقدمة العطور الشرقيَّة المستخرجة من الطبيعة، نباتها وحيوانها كالمسك والعنبر والمرّ والند. وكلما أتى ذكر هذه الأنواع يفيض فوح شذاها، وتزيد قوّتها إذا تم مزجها معاً لتكمّل بعضها بعضاً، أما العود فكلما جرى استعماله مركزّاً ومعتّقاً كان ذلك دلالة على المكانة التي يحتلها في قلوب عاشقيه الذين لا يرضون عنه بديلاً. وهذا لا يمنع خلطه مع أنواع قريبة منه في المنشأ مثل الصندل والعنبر والزعفران والمسك، ويسمى هذا النوع بالمخلّط. والرائحة العطريَّة في العود توجد في زيت الشجرة الأساسي الذي يتم استخلاصه من اللحاء، وهو الجزء الأساسي لدهن العود، ويكون ذلك بعدة طرق هي العصر والذوبان والتقطير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فوائد صحية
ومن ناحية صحية وعلاجية فيعتقد السعوديون في المعلومات المنتشرة عن فوائده في الطب الشعبي، حيث يُستخدم دهنه لعلاج عدد من الأمراض الجلدية كما يستخدم لعلاج الصداع وآلام الظهر والمفاصل، ويُعتقد أنَّه يهدئ الأعصاب ويقلل من حالات التوتر والقلق. والاستناد في ذلك على ما رُوي عن ابن سيناء بقوله "إنَّ طيب العود يقوي الأعصاب ويفيدها وينفع الدماغ ويقوي الحواس والقلب والمعدة والكبد". وكذلك قول ابن القيّم "إنَّ العود يفتح السدد ويقوي الأحشاء وينفع الدماغ ويقوي الحواس ويحبس البطن ويقي سلسل البول الناتج من برد المثانة". ومن استخدامات خشب العود، منهم من يقوم بنقعه وشرب مائه أو استنشاقه لعلاج العديد من الأمراض منها النقرس والروماتيزم للاعتقاد بأنَّه مقوّ عام.
السعودية السوق الأكبر عالمياً
تشهد تجارة العود في السعودية تطوراً مستمراً تعكسه الخدمات المصاحبة للحملات الترويجية، فقد أقيمت في الآونة الأخيرة العديد من المعارض عكست روح التنافس بين شركات العود العديدة، بخاصةً أنَّ المملكة تستهلك ما يقارب 65 في المئة من حجم سوق العود العالمية. وقد كشفت الهيئة العامة للجمارك السعودية، أنَّ واردات البلاد من خشب العود "البخور"، بلغت 861 كيلوغراماً، خلال عام 2018، بقيمة مالية بلغت 113 مليون ريال (30 مليون دولار). وبلغت واردات السعودية من دهن العود لعام 2018، 14.569 كيلوغرام، بقيمة مالية بلغت 38 مليون ريال (10 ملايين دولار).
كانت وما زالت للعود مكانة كبيرة في السعودية من جمال الطبيعة الأخّاذ تم استخلاصها من قصص الحضارات والتاريخ وأصالته التي يزيدها الإشعال طِيباً، ليتربَّع مكانةً مميزةً سيّداً على عطور الشرق.