بعدما أعطى انطباعاً أنه لم يستقر على رأي نهائي من مسألة حل البرلمان الجزائري، يبدو أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد اقتنع بضرورة "التخلص" من غرفتي البرلمان في انتخابات تشريعية مبكرة قبل نهاية العام الحالي، على أن تكون الحكومة قد انتهت من صياغة دستور جديد وقانون للانتخابات يترجم وعود تبون الرئاسية. وهذه الانتخابات تشكل فرصة لقوى سياسية غير تقليدية قد تهيمن على مقاعد البرلمان، بعضها قادم من حركات طلابية أو من تيارات "علمانية" تشارك في الحراك بقوة.
وتبرز ورقة البرلمان كإحدى المحطات الكبرى التي قد يعتمد عليها تبون في "إرضاء" قطاع واسع من "السياسيين الجدد"، الذين يشكلون في الغالب طليعة الحراك الشعبي المتواصل من 48 أسبوعاً. وكان تبون "متردداً" حيال مسألة حل البرلمان، الذي تنتهي ولايته الحالية عام 2022، وهو أحد الهياكل الدستورية الموروثة عن الفترة السياسية الماضية وأكثرها انتقاداً من قبل عموم الجزائريين.
ونقل جيلالي سفيان، رئيس حزب "جيل جديد"، عن الرئيس تبون بعد استقباله له مساء الأربعاء في مقر رئاسة الجمهورية، اقتناع الأخير بأن خطوة حل البرلمان قبل نهاية العام مع تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة في حدود ديسمبر (كانون الأول) 2020، تعني الذهاب نحو خريطة سياسية جديدة على أساس المتغيرات الحزبية التي تشهدها البلاد.
زلزال في الخريطة السياسية
يعتقد الكاتب الصحافي عمار لشموت أن "الحراك الشعبي منذ بداياته أحدث زلزالاً في الخريطة السياسية الحزبية الداخلية، لأن الهبة الشعبية تجاوزت كل الأطر التنظيمية والسياسية التقليدية". ويشير إلى أن "الأحزاب التقليدية لم يكن أمامها أي حل أو أي قدرة على استيعاب حجم التحولات المجتمعية المتسارعة منذ فبراير (شباط) 2019. وإلى يومنا هذا، لم يتمكن أي من تلك الأحزاب من التأقلم مع التظاهرات المطلبية. واللافت أنه بعد نحو سنة كاملة من المسيرات، فإن الأحزاب في مجملها لم تقدم أي خريطة جديدة للخطاب أو الممارسة، بما يحتوي مطالب الحراك أو يسايرها… من الطبيعي إذاً أن تظهر فعاليات حزبية جديدة وأيضاً قيادات جديدة بما يتوافق والمشهد الجديد".
المفارقة أن الأحزاب السياسية التي تعتبرها غالبية الجزائريين جزءاً من "المشكلة"، وهي تلك التي كانت دعامة خلف نظام عبد العزيز بوتفليقة الفاسد سياسياً، تحاول من دون جدوى العودة إلى الحياة السياسية، إما بإقرار تغييرات شكلية على القيادات أو حتى بإعلان نية تغيير اسمها بالكامل بما ينهي الإرتباط بالمرحلة السالفة. لكن جهودها اصطدمت بشكل صريح بنوايا مشتركة ومتفق عليها بين الحراك الشعبي والرئيس تبون، الذي لا يخفي "خصومته" إزاء حزمة من الأحزاب التي تشكلت قبل ثلاثة عقود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشار إلى أن البرلمان الجزائري المشكل من غرفتين (المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة) يهمين عليه حزبان بارزان من الموالاة، هما جبهة التحرير الوطني الذي يعتمد شعار "الشرعية الثورية"، والتجمع الوطني الديمقراطي وليد الإدارة الجزائرية في فترة التسعينيات. والحزبان غير قادرين على "رفع رأسيهما" قبالة الجزائريين لما شكلا من مظاهر "الفساد السياسي" خلال عهد بوتفليقة.
كما تشارك أحزاب إسلامية بتكتلات مختلفة تحت قبة البرلمان، وعلى الرغم من "تخفيها" وراء عباءة معارضة نظام بوتفليقة داخل المؤسسات الدستورية، إلا أن قطاعاً واسعاً من الجزائريين يتهمها بـ "إعطاء شرعية لعدد كبير من الانتخابات المزورة وبالتالي هي شريكة في المشكلة وليست شريكاً في الحلول المطروحة".
مأساة التيار الإسلامي والوطني
يقول الناشط السياسي محسن دبوز لـ"اندبندنت عربية" إن "مأساة الأحزاب الجزائرية التقليدية مزدوجة وعميقة، فهي لم تكتف بأن تكون شريكاً في فترة حكم بوتفليقة، بل تريد أن يكون لها دور في المرحلة المقبلة". ويضيف دبوز "كان الأصح أن تختفي هذه الأحزاب من المشهد نهائياً، لأنها نقلت فساد منظومة الحكم إلى داخلها وتحولت إلى مفرخة للزبائنية المبنية على عبادة الأشخاص وتغلغل المال الفاسد. أما الأحزاب الإسلامية القريبة من تيار الإخوان فشاركت في جميع منعرجات السلطة السابقة وكانت شريكاً مستتراً. كما أنها لحقت بالحراك أولاً ثم انسحبت منه، ثم عادت لتغازله من جديد من دون قيم أو مبادئ".
ويضيف "الأخلاق السياسية كانت تقتضي حل هذه الأحزاب لنفسها وليس محاولة العودة إلى المشهد بخطاب، أو قادة جدد أو بأسماء جديدة، مع أنها كانت في صدارة شعارات الحراك الشعبي. ومحاولة استمرارها في المشهد تتطلب قرارات جريئة من الرئيس تبون". فما الذي يمكن لتبون فعله إذاً لتطهير الساحة السياسية؟ يجيب دبوز "واضح أن رئيس الجمهورية لا يريد تفجير خصومة مباشرة مع تلك الأحزاب في الفترة الراهنة، وهو يفضل التخلص منها عبر انتخابات تشريعية ومحلية".
قوى جديدة
بشكل بطيء، لكنه ملحوظ، تتجه قوى شبابية وطلابية نابعة من الحراك الشعبي إلى التشكل ضمن أحزاب سياسية جديدة قد تتحول إلى الفاعل الأول في الانتخابات التشريعية المبكرة نهاية العام. وهي في ذلك ليست وحدها. ذلك أن التيار العلماني يحقق تقدماً داخل الحراك الشعبي، بما أنه التيار الوحيد المستميت داخل المسيرات الشعبية إلى جانب قوى عمالية، اشتراكية واشتراكية قريبة من التيار التروتسكي تستعد بدورها لخلافة الأحزاب التقليدية المعارضة.
في قراءة لواقع القوى السياسية ومستقبلها، يشير الكاتب الصحافي حميد عياشي إلى أن معظم القوى التقليدية والناشطين السياسيين "احتموا لأشهر بالحراك الشعبي، وهم من الذين لم يتمكنوا من التجذر من قبل داخل الشعب. وبالإضافة إلى السياسيين، احتمى بالحراك أيضاً كل من لم تكن لديهم في الماضي أدوار إيجابية أو فعلية في معارضة النظام، بل كانوا قريبين منه أو على الأقل سلبيين".
ويضيف عياشي أنه بعد وفاة رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح "صعد تيار من الحراك وهو التيار الذرائعي البراغماتي الذي اقتنع أنه يحب نقل روح الحراك إلى مؤسسات الدولة، وذلك للمباشرة في تغيير النظام ضمن مرحلة انتقالية يقودها رئيس خرج من معطف النظام في انتخابات محسوبة لكنها غير مزورة". ويشير إلى أن "الحراك بأطيافه كان عليه أن ينتج من خلال ديناميته الرئيسية ديناميات جديدة تتمثل في نشوء تشكيلات سياسية جديدة يقودها فاعلون ووجوه جديدة، وممثلون جدد للمجتمع المدني".
وضمن الحركات الناشئة من رحم التظاهرات الطلابية، يبرز اسم "حركة عزم" التي تقدم نفسها "قوة من التيار المحافظ على أصالة الشعب الجزائري وثوابته المتمثلة في الدين واللغة ومشروع المغرب العربي، وتتبنى الإسلام الباديسي السمح الوسطي الذي يختلف عن التيارات الأخرى المتشددة".
كما تبرز قوى ديمقراطية جديدة من رحم "البديل الديمقراطي"، الذي ناهض المسار الانتخابي، تتجه تدريجياً نحو طلب اعتمادات رسمية للتحرك في المجال العام. وكل هذا قد يصبح ممكناً بمجرد تعديل دستور البلاد في النصف الأول من العام الحالي، وما سيتبعه تلقائياً من تعديلات على مستوى قانوني الانتخابات والأحزاب.
كما قد يشكل تغير مفاجئ في ملف الناشط السياسي السجين كريم طابو، تحولاً في النشاط السياسي للقوى الديمقراطية، بما أن طابو يملك بدوره قاعدة أنصار كبيرة في الحراك الشعبي، بغض النظر عن تراجع زخم المسيرات الشعبية في الأشهر الماضية.