زار الكويت هذا الأسبوع المُفكر الحداثي السعودي المعروف الدكتور عبد الله الغذامي، وقد كان مدعواً لإلقاء محاضرة ضمن مهرجان القرين الثقافي بالكويت، لكن رسالة نصية وصلتني عبر "واتساب" من صديقٍ مهتمٍ بالثقافة والأدب تفيد بترتيب جلسة خاصة -أي "محفوفة"- مع الغذامي برابطة الأدباء.
ورغم ارتباطات مسبقة، فإنني وجدتها فرصة لتجديد العهد مع المفكر الكبير الذي لم ألتقه منذ سنين، كما أنني كنت واثقاً بأن الحوار مع الدكتور الغذامي ليس كأي حوار، فهو مفكرٌ جادٌ، وأكاديميٌّ شغوف بالمعرفة والبحث والنقد.
غرّب بنا الغذامي "شرقاً"، وشرّق بنا "غرباً"، وكان الحوار مركزاً حول ما يجري بالسعودية من تغيّرات هائلة، اعترف الغذامي "الحداثي" بأنها أسرع مما كان يتوقّعه، ويطمح إليه يوماً في شبابه.
ما يجري في السعودية من إطلاق الحريات الاجتماعية، فجّر طاقات شبابية سعودية كامنة كان كثيرٌ منا -والكلام للغذامي- يظن أنها غير موجودة أصلاً، وكنا نعتقد بأن التمرحل هو الذي يمكن أن يخلق الإبداع والتطور، لكن نظرة الأمير محمد بن سلمان كانت مختلفة، وكان محقاً لأنه الأقرب إلى تطلعات الشباب السعودي بحكم فئته العمرية الشبابية، وبحكم تلمّسه لما يصبو إليه الشباب السعودي ويتمنّاه.
تطرّق الغذامي إلى المبتعث السعودي اليوم مقارنة بمبتعث السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قال الغذامي، كان المُبتعث يختطف من المطار حال وصوله من قِبل جماعات التطرف الديني، وتحتجزه المراكز الإسلامية ذات التمويل السعودي بالغالب، ويغلق تفكيره، ويعزل مما حوله، ويعود إلى السعودية متطرفاً لا يقدر على الانتظار حتى يقابل الحور العين وجنان السماء دون تعلّق بالبناء والتنمية لواقعه المعاش.
اختلف المُبتعث السعودي اليوم، فشباب السعودية بالخارج يتباهون بمشروع، ويفاخرون بخطة، ويمارون بإنجاز، شباب سعودي تفجّرت طاقاته بالفرصة، وبالحرية الاجتماعية التي وفّرتها القيادة السعودية اليوم.
تطرق إلى التعليم وتغلغل الإخوان المسلمين في ثناياه منذ ستينيات القرن الماضي، قولبوا المناهج، وغسلوا عقول أجيال كاملة بالفكر الغيبي الحزبي المنفّر والمتطرف، تفاءل بإعادة قراءة المناهج، والتركيز على العلوم الطبيعية بدلاً من الدراسات الإنسانية التي لا يستوعبها سوق العمل.
بدا الغذامي متفائلاً بحذر، تكلّم بنبرة صوت سعودي واثق وغير قلق على مستقبل بلاده، والحقّ أنه تطرق إلى كل المخاوف التي أثارها الحضور القليل العدد والكبير بتساؤلاته ومداخلاته. عبروا عن مخاوفهم، تحدّثوا عن قلقهم، وقد شاركهم الغذامي ذلك، وجادل مؤيداً بأن هذه المخاوف مشروعة، بل هي مخاوف العقلاء بالسعودية بمن فيهم القيادة التي "أسرّ" لنا الغذامي من خلال لقاءاته بقادة التغيير والعهد الجديد فيها بأن البدائل في حال التعثر هنا، أو الصعوبات هناك مطروحة وموجودة في أذهان متخذي القرار، الخطط البديلة جاهزة، ولن تنتظر التعثر، ولن تقبل بالفشل.
كرر الغذامي أهمية الشجاعة في اتخاذ القرار لدى القيادة السعودية الحالية، وأكّد كمتابع أن لا تراجع، فآفة القرارات الكبرى هي التراجع عنها أو التردد في تنفيذها.
عرّج بعض الحضور على اليمن، وآهاته وحروبه الداخلية والخارجية، فتكلّم الغذامي كما لو كان يمنياً يعيش في الضالع أو صعدة أو مأرب، تأوّه لآهات اليمنيين بسبب الحروب اليمنية التي لم تتوقف، وإن تقطّعت طيلة العصر الحديث، أسهب في شرح معاناة اليمنيين بسبب الانقلاب الحوثي الذي ساندته إيران وعينها على الرياض، وكيف أن عاصفة الحزم أجهضت ذلك المشروع الإيراني، وأن القيادة السعودية منذ اللحظة الأولى للانقلاب الحوثي وهي تفكّر بالحلول السلمية لليمن رأفة باليمنيين، ولوضع حد لمعاناتهم التي طالت.
غادرنا الغذامي تلك الليلة، ونحن في أجواء من التفاؤل والأمل، فالسعودية عمود الخيمة الخليجية، ومركز البيت العربي، وقِبلة المسلمين، وهي بالنسبة إلينا بالكويت توأم أمننا الاستراتيجي واستقرارنا وازدهارنا.