في 27 يناير (كانون الثاني) العام 1756 وُلد طفل اسمه فولفغانغ أماديياس موزارت. لم يعش في هذه الدنيا سوى 35 سنة أثبت فيها أنه عبقري نسيج وحده وهدية السماء الموسيقية إلى البشرية إذ ترك وراءه كنزا من الأنغام لا يحويه الوصف ولا يقدر بثمن.
في سن الخامسة كان الطفل فولفغانغ قد أتقن، بمساعدة أبيه، عزف البيانو وبدأ سلسلة مؤلفاته العديدة. وفي السادسة حظي بشرف العزف في البلاط الامبراطوري في فيينا. وفي السابعة كان قد علم نفسه العزف على الكمان بمهارة أدهشت حتى والده نفسه لأنه ما كان يعلم ان باستطاعة طفله الصغير عزفها في المقام الأول. وفي الثامنة ألف سيمفونيته الكاملة الأولى. وبسبب ما أوتيت له من عبقرية موسيقية منذ هذا العمر الغض وصفوه بـ"الطفل – المعجزة".
آفاق جديدة
لدى وفاته المبكرة وهو لما يزل في سني الشباب كانت مؤلفات موزارت قد وصلت إلى أكثر من 630 من سيمفونية إلى أوبرا إلى كونشيرتو إلى سوناتا إلى قداس موسيقي إلى أغنية كنسية إلى سائر أشكال الموسيقى الكلاسيكية الأخرى. ورغم أن غزارة الانتاج هذه مذهلة في حد ذاتها، فإن مكمن العبقرية هو عذوبة الموسيقى ورشاقتها والآفاق الجديدة التي وصلت اليها على تنوعها الواسع. وقد بلغ شأوه أن عملاقا موسيقيا في مقام بيتهوفن سعى إلى لقائه "للتعلم من علمه وموهبته" واعترف بتأثيره على مؤلفاته.
من اللعب إلى الجد
ولد موزارت في 27 يناير (كانون الثاني) 1756 لوالده المؤلف الموسيقي ليوبولد ووالدته آنا ماريا بيرتل موزارت في سالسبورغ، عاصمة أسقفية سالسبورغ المستقلة (في النمسا المعاصرة) التي كانت وقتها جزءا من الامبراطورية الرومانية المقدسة. وتلقى تعليمه الموسيقي بدءا من سن الثالثة على يد ابيه الذي كان يعلّم ابنته نانيرل (تكبر موزارت بخمسة أعوام) وقرر تعليم طفله ايضا على سبيل الدعابة واللعب. لكنه وجد في استجابته وسرعة التقاطه العلم مفاجأة أكثر من سارة.
وبسبب مواهب ابنته، وعلى الخصوص ابنه، أخذهما ليوبولد في جولات عروض موسيقية عديدة على مختلف المدن الأوروبية. ورغم مشقة التسفار وخطورته في ذلك الوقت، فقد أصبح ديدن الأب وابنه إذ اصبح مصدر رزق الأسرة الأساسي. ومن بين سائر المدن العديدة التي غشاها الصبي المدهش، راقت له روما، عاصمة الأوبرا، بشكل خاص. وهذا أمر ترك عليه أثرا عميقا تمثل في تأليفه بعض أعظم الأعمال الأوبرالية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية مثل "عرس فيغارو" و"المزمار السحري".
لست خادما
كانت المرحلة التالية في حياة موزارت مخيبة لآماله لا لشيء الا لتقدمه الحتمي في السن الذي أفقده صفة "الطفل – المعجزة". فوجد صعوبة في الحصول على وظيفة منتظمة، لكن إيمانه بموهبته كان هو الوقود المحرك لعبقريته.
وبفضل انتاجه الغزير وشهرته السابقة - وتوسلات أبيه - حصل أخيرا على وظيفة عازف الأورغن في بلاط كبير أساقفة سالتسبورغ، الأمير كولوريدو. لكن خصومة عميقة سرعان ما نشبت بينهما بسبب ما اعتبره موزارت "معاملة الأمير لي وكأنني أحد خدمه". وانتهى الأمر بطرده من القصر حرفيا بركلة على عجيزته.
قبر بلا شاهد
كان ذلك عام 1781 عندما عرضت له أوبرا "ايدومينيو" في ميونيخ. وعندما حظي هذا العمل بنجاح مدو، قرر موزارت أن العلة في سالتسبورغ نفسها. فغادرها إلى فيينا حيث وجد ترحاب النبلاء. وتعزز وضعه هذا بنجاح أعماله في دور الأوبرا الايطالية والالمانية، إضافة إلى إحيائه العديد من الحفلات الموسيقية في فيينا نفسها. وعام 1782 تزوج كونستانتسا ويبير التي أنجبت له ستة أبناء مات أربعة منهم في طفولتهم الباكرة. وكان في هذه الفترة في منتصف العشرينات من عمره.
على أن الرخاء لم يدم طويلا إذ بدأت الحظوظ تعبس في وجهه، فراح يرزح تحت وطأة الديون جزئيا بسبب سعيه وزوجته إلى حياة البذخ. ورغم أن الفقر لم ينل شيئا من عبقريته، فقد نال الكثير من صحته بسبب اضطراره للتأليف وإحياء الحفلات بشكل مستمر. وعندما توفي في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1791 كان معدما ودفن بأرخص جنازة ممكنة وفي قبر بلا شاهد بمقابر عامة في فيينا.
لقطات
ـ ألف سيمفونيته الأولى في سن الثامنة لأن والده كان مريضا وحرمت والدته عليه لمس البيانو. فألف السيمفونية للأوركسترا كاملة على النوطة تبديدا لشعوره بالضجر بعيدا عن البيانو.
ـ في صباه الباكر حضر حفلا في الفاتيكان قُدم فيه مؤلف "ميزيريري" لغريغوريو اليغري. ولما طلب موزارت الاطلاع على النوطة الموسيقية رفض طلبه، فما كان منه الا ان دون العمل كاملا على النوطة بدون نقص أو إخلال... من الذاكرة.
ـ زار وهو طفل مزرعة مع أبيه فسمع خنزيرا يطلق شخيره. فقال إنه يشخر في عتبة "صول بيمول". وعندما هرع الوالد إلى بيانو صاحب المزرعة تأكد له قول طفله المعجزة.
ـ أتاه متسول يوما متظاهرا بأنه قريب له وطلب منه مالا. كان موزارت مفلسا لكنه تعاطف مع الرجل. فألف له فورا قطعتين موسيقيتين وطلب إليه بيعهما لدى ناشر معين. وبعد حين كان المتسول يضع خمسة جنيهات ذهبية في جيبه.
ـ اشتهر ببذاءة لسانه وفحش لغته في خطاباته بما فيها التي كان يكتبها لشقيقته.
ـ كان عاشقا للبلياردو التي كان يلعبها في فترات استراحته من التأليف الموسيقي.
ـ مسرحية "اماديياس" والفيلم بالاسم نفسه يصوران قصة العداء المَرَضي الذي كان يكنه له المؤلف والمايسترو الإيطالي انتونيو سالييري. وقد كان هذا الأخير يظن انه أعظم موسيقي في عصره حتى استمع لموسيقى موزارت. وتبعا للمسرحية والفيلم فقد أعلن سالييري خصومته للكنيسة لأن ربها خص غيره بتلك الموهبة النادرة واختاره بالتالي للعظمة والمجد.
أهم أعماله
يستحيل في مقال كهذا حصر أعمال موزارت العديدة أو حتى أهمها. لكن، بشكل عام، يمكن القول في ما يتعلق بسيمفونياته أن الثامنة والثلاثين إلى الحادية والأربعين تبرز عبقريته الموسيقية بشكل خاص. ويذكر أن السيمفونية الأربعين اشتهرت بشكل خاص في العالم العربي عندما استعار الأخوين رحباني مطلعها لأغنية فيروز الشهيرة "يا أنا، أنا ويّاك".
وفي مؤلفات كونشيرتر البيانو، وعددها 27، تتعين الإشارة إلى السبعة عشر الأخيرة منها. أما كونشيرتو الكمان فلك أن تأخذ أيا من الخمسة الأوائل التي ألفها جميعا عام 1775. كما يستشهد العارفون بموسيقاه بالرباعيات الوترية الستة التي أهداها للمؤلف الموسيقي جوزيف هايدن بعد لقائه به في لندن. ويذكر أن هايدن، ومن قبله يوهان سباستيان باخ تركا آثارا لا تخطئها الأذن المدربة على عدد من مؤلفاته.
أما في مجال الأوبرا، التي ألف فيها 22 عملا، فتعتبر أربع منها قمما في هذا الفن وهي: "عرس فيغارو" و"دون جيوفاني" و"لا فرق بين امرأة وأخرى" الشهيرة باسمها الأصلي "كوزي فان توتي" وأخيرا "المزمار السحري".
مقترحات للاستماع
- ربما كانت سيمفونيته الأربعون (في سلم صول الصغير) هي الأشهر في العالم العربي بفضل الأخوين رحباني وفيروز. استمع اليها من اوركسترا بوسطن السيمفونية هنا:
- "الرندة التركية" (وهي خاتمة سوناتا البيانو رقم 11) ستروق للأذن الشرقية لأن موزارت استعار فيها النكهة التركية لأنغامها وإيقاعاتها الداخلية فاكتسبت اسمها من هذه الحقيقة. وهذه إيقاعات وصلت إلى مسامع موزارت بفضل الفرق الموسيقية التركية التي شاهدها وهي تجوب شوارع فيينا وتقدم فيها عروضها للعامة. في هذا الفيديو ستستمتع اليها كموسيقى تصويرية لمقطع من فيلم "اماديياس" الشهير الذي أخرجه الأميركي – التشيكي ميلوش فورمان العام 1984 عن حياة موزارت.
- مقدمة "عرس فيغارو" من أفضل البدايات بالنسبة للساعي إلى التعرف على هذا الموسيقي. فهي في الأصل مسرحية "فضائحية" حُظر عرضها في روما و باريس "حفظا للحياء العام". فما كان من موزارت الا أن حولها إلى اوبرا تستغني عن الكلمات وتتولى الموسيقى التعبير عن فحشها الممنوع. استمع اليها هنا:
- خماسي الكلارينيت والوتريات أفضل ما يظهر عشق موزارت لهذه الآلة المهملة التي لم يتنبه الناس لجمالها الا في القرن العشرين عندما أصبحت أساسية في موسيقى الجاز. على أن الذي فعلته موهبة موزارت الموسيقية بها لا يمكن أن يوصف بأقل من "مدهش" لأنه بيّن الفضاءات الهائلة الذي يمكن لهذه الآلة أن تتحرك داخلها. استمع لهذا الخماسي هنا:
- "المزمار السحري" هي آخر أعمال موزارت الأوبرالية التي وصلت إلى خشبة المسرح. وهي عالم – كما يشي العنوان – يحفل بالقصص الخرافية والشخصيات الاسطورية، فصارت معرضا يظهر فيه تعدد أساليبه الموسيقية وفقا لأحداث تحلق في سماوات السحر وتعود إلى الأرض لتحلق من جديد في سماوات أخرى. شاهدها كاملة هنا: