لا يختلف النقاد اليوم على اعتبار الأميركي إدوارد هوبر (1882 ــ1967) أحد أكبر فناني القرن العشرين. لكن بينما يركّز منظّمو معارضه التي لم تعد تحصى اليوم على المشاهد التي رسمها للحياة المدينية في وطنه، والتي صُنِّفت تارةً كأعمال واقعية وتارةً كأعمال رومنطيقية أو رمزية أو حتى شكلانية، وهي في الواقع تشييدات ذهنية صافية، لم تحظ لوحاته التي رصدها للمناظر الطبيعية بالاهتمام نفسه على رغم قيمتها الفنية الأكيدة وأهميتها في فهم عمله التشكيلي ككُلّ. من هنا أهمية المعرض الذي انطلق حديثاً في متحف مؤسسة "بييلير" الفنية في مدينة بازل السويسرية، ويتوق، من خلال عشرات اللوحات الزيتية والمائيات والرسوم، إلى كشف النظرة التي ألقاها هذا العملاق على الطبيعة الأميركية والطُرُق الفريدة التي اعتمدها لتمثيلها.
مصادر وحي هوبر كشفها بنفسه في حوارات مختلفة معه: الأدب الألماني والفرنسي والروسي الذي قرأه بنهمٍ طوال حياته، وخصوصاً الفنانين فيلاسكيز وغويا ورامبرانت وكوربيه ومانيه الذين عثر في أعمالهم على نقاط استدلال تظهر باكراً في زيتياته وتفسّر اهتمامه العميق باللون وموهبته الكبيرة في تمثيل الظل والنور وتدرّجاتهما، وبالتالي جماليته الفريدة التي تركت أثراً دامغاً ليس فقط على الكثير من الرسامين الذين أتوا بعده، بل أيضاً داخل الثقافة الشعبية وفن التصوير الفوتوغرافي والسينما.
في الفن التشكيلي، تعني عبارة "مشهد" أو "منظر" صورة ثابتة للطبيعة تشكّل مقابلاً للطبيعة نفسها، المتحوّلة دائماً. أما هوبر فيمنحنا قبل أي شيء في لوحاته المشهدية نظرته الخاصة والمتعددة للطبيعة، مبتكراً في ذلك مقاربةً حداثوية لنوعٍ تشكيلي تقليدي. فبخلاف التقليد الأكاديمي، تبدو مشاهده غير محدودة بفضل التأمّل العميق الذي يقف خلفها، وتوحي به. مشاهد ذهنية إذاً هي عبارة عن تشييدات ذات طابع هندسي واضح تتراوح عناصرها الرئيسية بين منازل ترمز لحضور الإنسان داخل الطبيعة، وسكك حديدية تمنح بنية أفقية للوحة وتجسّد الطموح البشري لفتح فضاء الطبيعة الشاسع وتدجينه، وسماوات فسيحة ومناخات ضوئية خاصة، تارةً باهرة وتارةً غسقية، تساهم في إبراز ضخامة طبيعة في حالة تحوّل دائم، حتى داخل لوحات ثابتة المشهد في ظاهرها. وفي هذا السياق، تصبح منارةٌ، على سبيل المثال، مَعْلماً أو نقطة استدلال داخل المدى اللامتناهي للبحر والشاطئ.
تجسيد اللامرئي
من جهةٍ أخرى، تمنحنا لوحات هوبر المشهدية الانطباع بأن ثمة شيئاً غير مرئي يحصل خارجها، كما يتجلى ذلك مثلاً في لوحة "كايب كود عند الصباح" (1950) التي نرى فيها امرأة عند نافذة، تلفح الشمس وجهها وتتفحّص شيئاً يتعذّر على المتأمّل في اللوحة مشاهدته لوقوعه خارج فضائها. وكما في جميع أعمال الفنان، تطغى على لوحاته "الطبيعية" كآبة وعزلة، إضافةً إلى شعور قوي بغرابة وتهديد خفي. شعور يعود ــ مهما بدا ذلك متناقضاً ــ إلى الألفة التي نستشعرها أمام المشهد المرسوم. فالغابة التي تتراءى في لوحة "كايب كود عند الصباح" تبدو حقيقية لنا، كما لو أنها أمامنا، مثلها مثل الغابة التي تحتل خلفية لوحة "محطة بنزين" (1940) الشهيرة، وتسجّل حضوراً مألوفاً لنا. ولفهم كيف تنتج تلك الغرابة المقلِقة لأعمال هوبر من الانطباع الذي تمنحنا إياه بمعرفة حميمة للأمكنة المرسومة فيها، لا بد من الإشارة إلى أن الغابة المذكورة، مثل أي عنصر من عناصر الطبيعة داخل لوحاته، هي أيضاً ركيزة أو منطلق لولوج دواخلنا، وتملك بالتالي القدرة على إثارة مشاعر وردود أفعال لاواعية فينا.
لوحات هوبرهي إذاً مشاهد مرئية توحي وتستحضر في صوريتها وعناصرها مشاهد غير مرئية وذاتية، وهو ما يفسّر جوابه الثابت على السؤال الذي طُرِح عليه عشرات المرات حول ما يبحث عنه داخل فنّه: "أبحث عن نفسي". جواب لا يدهشنا حين نعرف أنه حمل طوال حياته قصاصة ورق دوّن عليها جملة غوته التالية: "منطلَق وغاية كل عمل أدبي (أو فنيّ) هما أعادة تشكيل العالم الذي يحيط بنا بفضل العالم الموجود داخلنا، عمل يتم فيه إعادة خلق كل شيء وعجنه وتوليفه، وبالنتيجة فهمه، وفقاً لشكلٍ وطريقة ذاتيين". ولذلك، مهما بدت لوحاته واقعية، طبيعية ومألوفة، يتعلّق الأمر فيها دائماً بنظرته الشخصية للعالم وبرؤيته الفريدة للأشياء. أما بالنسبة إلى عملية تفسيرها أو تأويلها، فصرّح الفنان يوماً بأنه يعتمد في ذلك على المتأمّل فيها فحسب، وذلك من منطلق أن ذاتية فنّه تستدعي في المقابل ذاتية المتأمِّل فيه. فنٌّ يكشف لهذا الأخير أبعاد اللامرئي لكنه يترك له مهمة وحرّية العثور على تفسيره الخاص له.
باختصار، رسم هوبر لوحات بسيطة في ظاهرها، لكنها قادرة على فتح أبواب عوالم داخلية تجنّب تسميتها أو تحديدها بنفسه. من هنا تلك النوافذ الكثيرة الحاضرة في أعماله، والتي تمكن مشاهدتها من الداخل ومن الخارج معاً، وتمنحنا الشعور بأننا المتأمِّل والمتأمَّل فيه في آنٍ واحد. وسواء في مشاهده المدينية أو في تلك الطبيعية، سعى إلى مسائلة دور الإنسان ــ السلبي غالباً ــ داخل محيطه الطبيعي، وساهم بشكل لافت في بلورة مفهوم أميركا الكئيبة التي تعاني طبيعتها الخلابة من الجوانب المعتمة للتطوّر المسعور، وفي إرساء طريقة تصوير لا سابق لها تتجلى آثارها في أعمال سينمائية مهمة كثيرة، مثل "نورث باي نورث ويست" (1959) لألفرد هيتشكوك، "باريس تكساس" (1984) لفيم فاندرز و"رقصة مع الذئاب" (1990) لكيفين كوسنر، كي لا نذكر غيرها.