ردة فعل الحكومة الصينية للحد من انتشار فيروس كورونا ستخفض من طلب الصين على النفط نتيجة إغلاق المطارات وإلغاء الرحلات الجوية في المناطق الموبوءة، وإلغاء رحلات القطارات والحافلات، وتأخير وقت افتتاح المدارس، وتوقف العديد من الأنشطة الاقتصادية.
إلا أن هذه السياسات لها نتائج غير متوقعة ذات أثر إيجابي في أسواق النفط، كلجوء الناس إلى وسائل المواصلات الخاصة والسيارات الصغيرة، بدلا عن المواصلات العامة والطيران. وهناك أدلة حالياً على زيادة الازدحام في بعض المدن الصينية بشكل ملحوظ، رغم الوباء والحظر، وهذا يعني أن الأثر في أسواق النفط أقل مما تظهره الحالة الأولى أعلاه.
من جهة أخرى، انخفض إنتاج النفط الليبي بدرجة كبيرة بعد وقف قوات حفتر عمليات تصدير النفط الليبي، الأمر الذي أوقف الإنتاج في أغلب الحقول بعد أن امتلأت الخزانات فيها، وليست هناك طرق أخرى لتصريف النفط المنتج، إلا أن أثر هذا الانخفاض في أسعار النفط كان ضعيفاً، ليس بسبب ما يحدث في الصين، ولكن لأن الفائض في أسواق النفط هو من نفس نوعية النفط الليبي الخفيف الحلو.
كما حدث خلاف بين موسكو ومينسك حول تسعير النفط، فلجأت الثانية إلى استيراد النفط من قازاخستان والنرويج، والمشكلة أن روسيا البيضاء أرض مغلقة لا تطل على أي منفذ بحري، والشحنات من قازاخستان يجب أن تمر في الأراضي الروسية حتى تصل إلى روسيا البيضاء، فقررت موسكو إيقاف شحنات النفط من أستانا إلى مينسك. في الوقت نفسه اكتُشِفت مادة عضوية (كلورايد) في أنبوب النفط الذي يصل كازاخستان في الصين، فجرى وقف تصدير النفط إلى بكين. وهذه المادة خطرة جداً لأنها تسهم في تآكل الأنابيب واهترائها، وكذلك تآكل الخزانات في المصافي، الأمر الذي قد تنتج عنه انفجارات وحرائق وتلوث بيئي نتيجة انسياب النفط، وهذه المادة تضاف إلى السوائل التي تُضخ في الآبار القديمة لزيادة إنتاجيتها، ولدى استخراج النفط، يُنقى منها.
أضف إلى ذلك انخفاض إنتاج النفط العراقي في بعض الحقول نتيجة المظاهرات، والتخوف من تفاقم أزمة الميليشيات الموالية لإيران مع الولايات المتحدة، ثم أضف التوقعات بانخفاض نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مقارنة بالسنوات الماضية، بسبب انخفاض الإنفاق الاستثماري في محاولة لرفع مستوى أرباح الشركات المنتجة.
تأتي هذه الأمور في ظل عوامل أخرى معروفة، مثل تخفيض "أوبك" و"أوبك+" الإنتاج، وآثار قانون منظمة الملاحة البحرية الدولية الذي بدأ تطبيقه في بداية العام والقاضي باستخدام السفن وقوداً منحفض الكبريت، وزيادة إنتاج النرويج والبرازيل بعد أن بدأت حقول جديدة تضخ النفط، وفي ظل انتظار المستثمرين نتائج الجزء الأول من اتفاق التجارة بين إدارة الرئيس ترمب والصين.
الخوف من عقود التحوط وليس فيروس كورونا
لا شك أن لفيروس كورونا أثر سلبي في أسعار النفط، ولكن الخوف الأكبر من أن تتكرر تجربة الربع الأخير من عام 2018 عندما انخفضت أسعار النفط بشكل ملحوظ حتى وصلت إلى مستوى السعر في عقود التحوط التي وقعتها شركات النفط الصخري مع البنوك، والتي تضمن سعراً معيناً للبرميل إذا انخفض عن حد معين، عندها اضطرت البنوك إلى بيع عدد هائل من عقود النفط المستقبلية لتخفيض خسائرها، فاستمرت الأسعار بالانخفاض. وكلما انخفضت، تجاوزت سعر تحوط لشركة ما، وأجبرت البنوك على بيع المزيد من عقود النفط. ويُتوقع أن يتكرر هذا السيناريو إذا انخفضت أسعار "برنت" تحت 55 دولاراً للبرميل.
إلا أن بعض الخبراء والتجار الذين يتوقعون ارتفاع أسعار النفط في المستقبل يرحبون بهذا السيناريو، لأنه سيؤدي إلى ارتفاع أكبر في أسعار النفط مستقبلاً، فانخفاض الأسعار الآن سيضرب خطط التوسع التي قررتها بعض شركات الصخري، كما سيضعف قدرة بعضها على الاستمرار في الإنتاج، وسيجبر الشركات، بما فيها العالمية، على تخفيض الاتفاق الاستثماري وأخيراً بعض المشروعات، وكل هذا يسهم في رفع الأسعار بنسبة أكبر لاحقاً.
ردة فعل "أوبك" و"أوبك+"
خففت التصريحات الرسمية من أثر أزمة فيروس كورونا في أسواق النفط، لكنها تؤكد أيضاً أن الدول الأعضاء ستتعامل بمرونة مع هذه القضية، فإذا اقتضى الأمر تعميق التخفيض فإنهم سيقومون بذلك. والمشكلة أن هذه الدول ستجتمع في بداية مارس (آذار) المقبل في فيينا، وليست هناك بيانات كافية لاتخاذ قرار مناسب، إذ ليس لديها إلا بيانات جزئية لشهر يناير (كانون الثاني)، وهذا لا يكفي لاتخاذ القرار المناسب. ولا تستطيع الاعتماد على الأسعار كمؤشر، لأن انخفاض الأسعار لا يعني بالضرورة انخفاضاً كبيراً في الطلب، ولا يعني بالضرورة تزايد الفائض، لهذا فإن "أوبك" و"أوبك+" تحتاجان إلى بيانات حقيقية عن الطلب والعرض في السوق. وبناء على ذلك، يصعب التنبؤ حالياً بما يمكن أن ينتج عن هذه الاجتماعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما يزيد الأمور تعقيداً أن الطلب العالمي ينخفض عادة في الربع الأول من العام، ولذا قررت دول "أوبك" و"أوبك+" تخفيض الإنتاج، ثم تبرعت بعض الدول بتخفيض إضافي بهدف منع المخزون في الدول المستهلكة من الارتفاع بشكل كبير. وعادة ما يزيد الطلب على النفط في النصف الثاني من العام، فإذا كان الارتفاع في المخزون محدوداً في النصف الأول، فإنه يُتوقع انخفاض المخزون بدرجة كبيرة في النصف الثاني، الأمر الذي يسهم في إعادة التوازن، نوعاً ما، في السوق.
ولكن الأمور أعقد من ذلك، فحصص "أوبك" الإنتاجية تركز على الكمية، بغض النظر عن النوعية، والمشكلة في السوق الآن هي أن الفائض في نوعيات معينة، والعجز في نوعيات أخرى. وقد أخطأ كثير من المحللين والخبراء عندما ظنوا أن قانون منظمة البحرية الدولية القاضي باستخدام وقود منخفض الكبريت سيزيد الطلب على النفط الصخري لأنه خفيف وقليل الكبريت (حلو). الطلب لا يزال على النفوط الأثقل وارتفعت أسعار الخامات المتوسطة الحلوة والثقيلة الحلوة بشكل كبير، بينما استمر الطلب على النفوط الأثقل الحامضة، حيث تستخلص المصافي المتقدمة تقنياً الكبريت منها وتنتج وقوداً تنخفض فيه نسبة هذا العنصر.
خلاصة الأمر، زادت أحوال أسواق النفط تعقيداً في الأيام الأخيرة، الأمر الذي يزيد من الصعوبات التي تواجهها "أوبك" و"أوبك+"، وإذا صدق توقع المتشائمين بخصوص مدى انتشار الوباء وأثره السلبي على الاقتصاد الصيني، فإن الدول النفطية ستواجه مشكلة كبيرة في عام 2020. وبهذا يمكن القول إن "كورونا" ضرب اقتصادات الدول النفطية، رغم عدم وجود إصابات بشرية.
أما إذا صدق توقع المتفائلين المقتنعين بأن هناك مبالغة في موضوع الفيروس وآثاره، فإنه يُتوقع تحسن الأسعار في النصف الثاني من العام، خصوصاً أن الأدلة التاريخية تشير إلى نمو اقتصادي مرتفع بعد انتهاء الوباء، وزيادة حركة السفر.