أمضيتُ مرحلةً كنتُ أكتب فيها كلّ يوم عن الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي. تناولت الخصائص المميّزة للخطوة وتقنياتها، وأصوات الناخبين، واللاعبين الرئيسيّين، وكتبتُ عن "العمّال" و"المحافظين" ثم عن "المجموعة المستقلة" و"الديموقراطيّين الأحرار" الذين لم يكونوا راغبين في المغادرة. كتبتُ أيضاً عن إمكان إجراء استفتاءٍ ثان، وعن المناقشات التي لا تنتهي في شأن الحلّ البديل الآمن، وعن الدجاج المغسول بالكلور، وعن بوريس جونسون الذي قاد حفّارة تردّد: "فلننجز الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي".
شاهدتُ نتائج الاستفتاء تنطلق من مكتبي داخل غرفة الأخبار في لندن، وبعد ذلك ساعدتُ في تغطية أعمال اقتراع لا تنتهي في شأن صفقات "بريكست" التي لا نهاية لها هي أيضا، والتعديلات التي أجراها رئيسا وزراء منفصلان وعددٌ من السياسيّين، إضافةً إلى مكتب "اندبندنت" في نيويورك. شاركتُ في مسيراتٍ تتعلّق بالموضوع. خضتُ جدلاً على "فيسبوك" في مسألة المغادرة. ترنّحتُ متأرجحةً ما بين الشفقة على النفس والجلد الذاتي والغضب. وأعلنتُ أنني لن أجدّد جواز سفري أبدا.
ثم جاء هذا الأسبوع يوم الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي، وأنا بكلّ بساطة... لم أبال.
طبعاً أنا أهتمّ بشدة بالمسائل المعنية. لكن ككثير من البريطانيّين، اعترتني حالٌ من اللامبالاة والغضب السياسي بشكلٍ يشبه أسلوب نايجل فاراج. فقد بدأتُ اعتنق العدمية. لدي الكثير من الأفكار، لكنني أجد نفسي أجيب على "إذن ماذا عن خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي"؟ بمزيد من عدم الاكتراث هذه الأيام، فلم يعد لدي ميل إلى الشجار. ولا أعرف حتى ماذا سأقاتل بعد الآن.
ستلاحظون عندما تشاهدون كلّ ما يدور من الخارج عبر المحيط الأطلسي، أن تمثيلية المغادرة البريطانية للاتّحاد الأوروبي تظهر بأكملها أكثر غرابة ممّا تبدو عليه من الداخل. وكما كلّ بريطاني يميل إلى المازوخية، شاهدتُ مقطع فيديو هذا الأسبوع لنايجل فاراج وفريقه في البرلمان الأوروبي، وهم يلوّحون بأعلام مصغّرة للمملكة المتّحدة فيما كان بيروقراطيّو بروكسل الممتعضون يشيحون بنظرهم بعيدا، ما شكّل حرجاً بالنسبة إلينا. شعرتُ بحزنٍ حقيقي عندما رأيتُ مقاطع فيديو عن قدامى محاربين من الحرب العالمية الثانية التُقطت لهم على المنحدرات البيضاء في دوفر، وجميعهم يتحدّثون عن مدى أسفهم لرؤيتنا ننفصل عن أوروبا في مثل هذا الوقت المحفوف بالمخاطر.
لكنني أعيش الآن في الولايات المتّحدة، وأنا أعي أننا نحتاج إلى توفير طاقتنا للمرحلة التي ستأتي. فقد كان الكفاح ضدّ تيّار الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي ولا سيما من جانب "الخاسرين المتألمين" أو "مجدّدي الندب من مؤيّدي البقاء" أو "المنادين بشعار أعيدوا إلينا بلادنا"، صراعاً لا طائل منه. إن النضال من أجل اكتساب حقوقنا خارج الاتّحاد الأوروبي هو أكثر قابلية للتنفيذ وأكثر أهمية. فقد أمضينا وقتاً طويلاً في انقسامٍ على خطوط قديمة. وحان الوقت كي نقف معاً في مواجهة الأمور المهمّة. لقد آن الأوان بالنسبة إلينا جميعا، وأجرؤ على القول، لأن نقف للدفاع عن القيم البريطانية.
قد تشكّل الولايات المتّحدة الأمل الأكبر للمملكة المتّحدة لناحية إبرام صفقة تجارية، فقد أكّد ذلك بوضوح بوريس جونسون، وكان دونالد ترمب أكثر وضوحا (على الرغم من أن هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية NHS ليست للبيع"، طبعاً ليس على الإطلاق تماماً كما تعلمون، ربّما بعضٌ من الخصخصة قد يحدث بالفعل، وعلى أي حال، هناك حاجة لـ40 مستشفى جديداً ولستة مليارات من الجنيهات من أجل زيادة عدد الممرّضات). وقد يفترض أيضاً كثير من البريطانيّين أن يكون التحالف المعزّز حديثاً مع الولايات المتّحدة أمراً جيّدا، فنحن نتشارك لغة واحدة بعد كلّ شيء، وأطفالنا يشاهدون أفلام الكرتون الأميركية ويرتدون قمصاناً تحمل أعلاماً أميركية، بينما شركات بريطانية مثل "كادبيري" و"بي جي" تشترى من تكتلات أميركية ويُعاد بيعها إلينا، لتكون أكثر لذّة. فما الخطأ في أن تصبح المملكة المتّحدة بعض الشىء مثل أميركا؟ ألا يقتل الكلور البكتيريا الموجودة على الدجاج في أي حال؟ ألا تُعدّ البكتيريا سيّئة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما تكون الولايات المتّحدة بلداً رائعاً في كثيرٍ من النواحي، لكن يمكن أن تكون أيضاً شرّاً حقيقياً عندما يتعلّق الأمر ببعض القضايا المحدّدة ذات الصلة بالتجارة. والرعاية الصحية ليست سوى قضية واحدة، فالنهج الأميركي للرعاية الصحية الذي يكرّر بعناد مبدأ "الأسواق الحرّة تجعلنا أكثر حرية" حتى يموت الجميع، قد أدّى إلى أزمة "المواد المهدّئة" (حصدت 42 ألف شخص في الولايات المتّحدة في العام 2016)، وإلى مشكلة ترك مرضى السكّري يقرّرون بأنفسهم نسبة الإنسولين التي يتناولونها، وسبّب ارتفاع معدّلات الوفيات بشكلٍ غير مقبول بين الحوامل والمواليد الجدد، ودفع بالفقراء إلى شراء مضادّات حيوية من الأسماك على "أمازون" في محاولة لعلاج أمراض لا يتحمّلون كلفة الذهاب إلى طبيب يعمل على تشخيصها. كلّ ذلك لم يبدأ بهذه الطريقة. لم يكن حتى بهذا المقدار من السوء قبل نحو عقدٍ من الزمن. لكنها صناعة مربحة بشكل لا يُصدّق، ولا يزال الأميركيّون التقليديّون ينظرون إلى فكرة أن الرعاية الصحّية حقّ من حقوق الإنسان، بأنها راديكالية ونتاج شيوعي. وبسبب ما تقدّم، يجب على الشعب البريطاني بجميع شرائحه أن يكون متيقّظاً لوجوب حماية "الخدمات الصحّية الوطنية" لدينا. فهناك الكثير من الأموال التي يُنوى جنيها من الحطام القائم على حوافي نظام الرعاية الصحية الرائع المجاني الخاصّ بنا.
ويمكن أن تكون الولايات المتّحدة أكثر خبثاً في الطريقة التي تستخدم بها الصفقات التجارية للسيطرة على البلدان الأكثر اعتماداً عليها. هذه السياسة لا تؤثر هذه فقط على البلدان النامية، بل كانت كندا إحدى الضحايا الرئيسية لاستراتيجية التعرفات السعيدة بالنسبة إلى ترمب في العام 2018، لمجرّد أن الولايات المتحدة هي شريكها التجاري الرئيسي بحكم الجوار. وإذا وضعنا أنفسنا تحت رحمة السياسيّين الأميركيّين من خلال الاعتماد بشكل كبير على التجارة مع بلادهم، فمن الممكن أن نشعر بالشلل بسهولة، بسبب نزوات ترمب آخر. وإذا كان الاتّحاد الأوروبي عبارةً عن مجموعة من الدول التي تحتفظ بضبط للبعض الآخر، فإن الولايات المتّحدة تمارس التنمّر والرأسمالية التي لا ترحم، ولن يكون اعتمادنا عليها بالنكهة نفسها التي كان عليها اعتمادنا السابق على الاتّحاد الأوروبي.
وكما يتّضح من الصوت المرتفع للمحتجّين خارج مكتبي اليوم، فإن الشركات الأميركية تقوم أيضاً بعملٍ رهيب في ما يتعلّق بتشريعات رعاية الحيوانات. الدجاج يُغسل بمادّة الكلور لأن الظروف التي تعيش فيها هذه الدواجن يُحتمل أن تكون أسوأ بكثير. وتُعدّ المضادّات الحيوية في اللحوم هي القاعدة، وكذلك الحيوانات التي تُغذّى بشكل فائق بحيث لا تستطيع قوائمها تحمّل وزنها. أما استخدام الحيوانات البرية الأسيرة في مجال السيركات فيظلّ ممارسةً غير قانونية. المملكة المتّحدة كانت أول بلدٍ في العالم يقرّ شكلاً من أشكال التشريعات التي ترعى الحيوان (في العام 1822)، لذا إن معارضة مثل هذه الممارسات القاسية بشكل صارخ يجب أن تصدر عنّا بشكل طبيعي. يجب ألا ندع المشكلة تسقط على قارعة الطريق لأننا نتعثّر في منع الركود الناتج من خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي.
أخيرا، هناك شيء آخر يجب أن نقاوم إدخاله إلى الثقافة البريطانية من أبناء عمومتنا الأميركيّين، وهو القومية التي لا جدال فيها. فهنا في الولايات المتّحدة، يتعرّض الناس للتخويف والصراخ إذا ما ظلّوا جالسين على مقعدهم أثناء عزف النشيد الوطني خلال مباراة كرة قدم. ويُطلب من الأطفال في المدارس أن يكرّروا بلا كلل كلماتٍ تؤكّد تعهّدهم بالولاء للعلم الأميركي. ويتمّ وصف عسكريّين "بصوت عالٍ" بأنهم "أبطال أميركيّون يقومون بواجبهم" من خلال "القتال من أجل القيم الأميركية"، على الرغم من أن معظم الناس يقولون إن ليس في إمكانهم تحديد موقع العراق أو أفغانستان على الخارطة (هذا الخطأ لا يتحمّلونه هم، لأن المعايير التعليمية الأميركية هي كذلك، متدنّية بشكل غير مقبول).
إن قليلاً من الوطنية حسنة النيّة قد يكون أمراً جيّدا، وإن كان في الواقع لا ينطبق عليّ (لطالما كنت أعتبر أن المكان الذي يُولد فيه الإنسان هو مسألة حادث يتعلّق بمصيره، بدلاً من أن يكون مصدر "فخر" يعتزّ به)، فالقومية المفرطة وبلا هوادة هي سامّة. في المقابل، إن وطنية الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي، هي أيضاً أمرٌ مثير للسخرية، فنحن لم يتمّ "تحريرنا" من أي شيء إلا من تحالفٍ دخلنا إليه عن طيب خاطر، أياً كانت خلفيات العِقد التي تنتاب مؤيّدي المغادرة. وإذا بدأتَ تصدّق أن جنسيتك تمنحك شيئاً مميّزا، فيمكنك أيضاً الاعتقاد بسهولة بأن جنسيّات الآخرين تجعلهم أقلّ شأنا. ويؤمل في أن تحمينا سخريتنا البريطانية الطبيعية من أيّ شخص يمكن أن يذهب بعيداً في هذا الإطار. فلا أستطيع تحمّل فكرة ريف بريطاني تطغى عليه أعمدة الأعلام، على طريقة آلاباما.
لم يعد لديّ اهتمام بمَن أراد مغادرة الاتّحاد الأوروبي أم بمَن أراد البقاء، أو بالذين لم يحضروا إلى صناديق الاقتراع لأنه لم يهتمّوا أو لأن الطقس كان ماطرا. ما يهمّني هو الحفاظ على وحدة أجزاء البلاد التي أحبّها، بدلاً من بيعها إلى بلد أعرفه حقّ المعرفة. آمل بعد اجتياز "يوم الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي" في أن نتمكّن جميعاً من الاتّفاق على ذلك. أو على الأقل أن تكون نسبة الموافقين بيننا أكثر من 51%.
وفي غضون ذلك، سأبقى هنا في الولايات المتّحدة إذا تحوّلت مسألة الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي إلى كارثة. وقد قال صديقي العزيز نايجل أنه قد ينضمّ إليّ.
© The Independent