"أفهم من وصفك أن السرطان حالة نازية"؟ لم تحل كلماتي برداً وسلاماً على محدثي الطبيب، بل رفع حاجبيه تعجّباً مما رأه شططاً في تلك العبارة. "نعم. أنه حالة نازية. لم تكن الفاشية والنازية شخصاً أو حفنة أشخاص استولوا عنوة على سلطة ما وقادوا العالم إلى هلاك واسع. بالأحرى، شكّلت النازية حالة واسعة الانتشار، ميّزها تماماً إصرارها على إنتاج نوع "نازي" واحد، بل راحت تُلِحْ على تكرار الواحد نفسه... في الملابس الموحدة، وشعار الـ"سواستيكا" الموحد، وتكرار النمط نفسه من الأفكار والتفكير، وتكرار النمط الواحد في التصرف... وكذلك فعلت ذلك بـ"أنانية" استعلائية، بمعنى أن النازية شكّلت تكرار النمط الواحد على حساب كل آخر ممكن. واستناداً إلى ما فعلته في "الموضع" الألماني، "فرّخت" وكرّرت نموذجها المستند إلى تكرار الواحد المتشابه، في إيطاليا فظهر سرطان الفاشية، وتكرر الأمر نفسه في البرتغال (مع الجنرال أنطونيو سالازار) وإسبانيا (مع الجنرال فرانكو)... الأرجح أن السمة الأساسية في النازية والفاشية، تتمثّل في نمو نمط متكرر واحد على حساب بقية مكونات التنوّع الحيوي في المجتمع (ثم السعي لانتشاره في جسم الحضارة كلها)، ما أوصل إلى الهلاك. أليس ذلك متطابقاً مع ما وصفته أنت كطبيب، عندما قلت أن السرطان يمثل تكاثراً منفلتاً لنوع واحد بعينة من الخلايا، يبدأ في موضع معين ثم ينتشر في الجسم كله، على حساب كل أنواع الخلايا في الجسم"؟
عند تلك النقطة، بدا الطبيب شبه موافق على كلامي، ولا أعلم إن استساغه أم استمر في الحديث على سبيل المجاملة!
وبدا بديهياً أن يشكّل الشفاء من الورم الخبيث النقطة التالية في الحديث. إنه هاجس إنساني محض. هل ثمة شفاء أم أن الأفق الوحيد يتمثّل في الهلاك المحتّم؟
"لكني أذكر جيّداً أيام الجامعة... أخبرتنا البروفسورة (...) أنه إذا شهدت كطبيب شفاء حالة سرطان فالأرجح أنها لم تكن ورماً خبيثاً أصلاً والتشخيص كان خطأً، ثم هَمَسَتْ بأن ذلك ليس رسمياً"! جاءت تلك الكلمات ممتزجة مع ضحك شبه صاخب من مُحدِّثي الطبيب والصديق في سياق تذكّره أيام دراسته الطب في إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. ربما لا يتنبّه أطباء كُثُر إلى أن طريقة حديثهم عن السرطان تأتي أحياناً غير متوافقة مع جسامة ما يتحدثون عنه، بالأحرى أن كلماتهم لا تحمل ذلك الرعب الذي غالباً ما يخالط مخيلات الجمهور العام الواسع. أمر منطقي؟ الأرجح أن نعم، وإلا كيف يمكن للطواقم الطبيّة أن تستمر في صراعها مع ذلك المرض الذي بات السبب الثاني للوفيات عالمياً، وفق أرقام حديثة من "منظمة الصحة العالمية"؟
كأن محدّثي الطبيب سمع ما يدور في رأسي، فأضاف، "غني عن القول أن البروفسورة الهامسة ليست محقة أبداً في ما ذهبت إليه، بل أن كلماتها تستخف بجهود علمية ضخمة في مواجهة السرطان، ضمن معركة مستمرة منذ أيام أبوقراط الملقّب "أبو الطب" (460- 370 ق. م.) الذي يرجع إليه تقديم وصف أول للورم الخبيث. وحتى قبل أبوقراط، وصف أطباء الحضارة الفرعونية في برديات تعود إلى ما قبل الميلاد بقرابة ثلاثة آلاف سنة! واستطراداً، عُثر على بقايا أورام خبيثة في مومياءات وهياكل عظمية ترجع إلى تلك الحضارة القديمة. بالطبع، يوجد علاجات ومقاربات للشفاء، وهناك سجل من الانتصارات الطبية في ذلك الخصوص. زادت الانتصارات مع التطور في بحوث الجينات والتقدم في النانوتكنولوجي [الذي يعد بإيصال الأدوية السرطانية إلى الخلايا المصابة ولا يلمس الخلايا السليمة]، إضافة الى التعمق في فهم التفاعلات بين العوامل التي تسهم في السرطان وبين حدوث السرطان".
الوقاية... الوقاية.... الوقاية
لم أتوقف عن النقاش مع مُحدّثي الطبيب الصديق الذي "دردشت" معه بخصوص ما يرد أحياناً على لسان الناس بشأن زيادة أعداد حالات السرطان. أعطاني جواباً معقداً قوامه أن تحسّن وسائل تشخيص السرطان تفرض منطقياً ارتفاعاً في أرقام الحالات المشخصة من ناحية، لكن هناك معطيات في الحياة اليومية المعاصرة تسهم في مفاقمة الارتفاع في حالات السرطان.
ووفق رأي الطبيب الصديق، "الأرجح أنك تسمع دوماً أشياء مثل أن هذه المادة أو تلك تسبب السرطان... أو لا، لا إنها لا تسببه. لم يتركوا شيئاً لم ينسبوا إليه القدرة على التسبب باستثارة الأورام الخبيثة... كُل واشرب ودخن وافعل كل ما تريد... بالعكس، عليك توخي الحذر من كل شيء تسمع أنه يسبب سرطان... كل تلك الكلمات لا تتفق مع ما يعرفه العلم حاضراً عن الأورام الخبيثة".
وبلهفة جاء سؤالي عن الأشياء التي أثبت العلم فعلياً انها ترتبط بظهور الأورام الخبيثة؟ وجاء رد الطبيب الصديق بأن استخدم الـ"تابلت" للدخول إلى الإنترنت، وأظهر لي قائمة ضمّت 32 شيئاً ثبت مساهمتها بظهور الأورام الخبيثة، بما فيها أنماط العادات والسلوك اليومي، وقد أعدّها الموقع الإخباري الدولي "بيزنيس إنسايدر".
بدا بعض تلك الأشياء معروفاً تماماً كالتدخين، لكن قسماً كبيراً منها بدا مفاجئاً.
إذ تصدرت مادة السُكّر قائمة "المُسرطِنات"، بل وصفت بأنها "الطعام المفضل" للورم الخبيث. تلتها الأطعمة المحفوظة بأنواعها كلّها (من أكياس التشيبس إلى المأكولات المعلّبة)، ثم تدخين التبغ بأشكاله المختلفة لأنه يحتوي قرابة 70 مادة مُسَرطِنَة. ويلفت أن التعرّض للشمس أكثر من ربع ساعة من دون ثياب أو مراهم واقية، خصوصاً لإعطاء الجلد لوناً مسمراً، من أبرز أسباب السرطان لدى الشباب. ثم تأتي المواد الكيماويّة الصناعيّة التي يتعرّض لها العاملون في صناعات الألمونيوم والبلاستيك والدهانات وبطاريّات السيّارات وغيرها، إضافة إلى الزرنيخ وهو مادة منتشرة في الطبيعة، خصوصاً في المياه الملوّثة، وغبار نشارة الخشب، وغبار السيليكون، والغازات التي تنبعث في مناطق الكوارث الطبيعيّة.
في السياق نفسه، ربما يُفاجئ البعض بأن العمل ليلاً باستمرار يحفّز ظهور الأورام الخبيثة، وكذلك الحال بالنسبة لتناول اللحوم المُدخّنَة والخضار المشويّة على نار الفحم والخشب مباشرة، والسمك المحفوظ بالملح الكثيف على الطريقة الصينيّة، واللحم المُصنّع كالنقانق واللحم المقدّد. وليس مفاجئاً أن تضم القائمة دخان المصانع والسيارات والمركبات، والدخان المحمّل بمادة الـ"أسبستوس" وهو ينبعث من مصانع الإسمنت. ويضاف إليهم تناول الكحول بكميات كبيرة ومستمرة، والمواد المنبعثة من حفر آبار الغاز الطبيعي، والتعرّض للأشعة الذريّة (بما فيها كثرة التصوير بـ"أشعة إكس"). وهناك أيضاً المبيد الزراعي الشهير "غلاي فوسيات" Glyphosate الذي تُصَنِّعه شركة "مونسانتو" (غُرّمَت بلايين الدولارات في 2018 بسببه في أميركا)، والـ"فورما ألديهايد" Formaldehyde المستخدم في صنع الأصماغ ومواد البناء.
في الأدوية، برزت حبوب تنظيم الحمل وهرمون الاستروجين. وطبيّاً، هناك الحشوات الاصطناعيّة للثدي، ومجموعة من فيروسات معروف ارتباطها بالأورام الخبيثة، بما فيها "بابيلوما" Papilloma الذي يضرب عنق الرحم، إضافة إلى نوع نادر ينتقل بالصدفة أثناء القُبَل. وركزت القائمة على السُمْنَة كعنصر تتكاثر الأدلة على علاقته بالأورام الخبيثة. ويضاف إلى ذلك تأثيرات الوراثة والالتهابات المُزمِنَة، وتلوّث الهواء، ونوع من البلاستيك يحتوي مادة "بي بي إيه" BPA، ومادة "أكريلامايد" Acrylamide التي تتكوّن في مواد كالخبز المُحمّص وما يشبهه"، وفق كلماته.
أرقام مؤلمة ومقلقة
بعد ذلك، انتقلت شاشة "تابلت" الطبيب الصديق إلى موقع "منظمة الصحة العالمية" الذي يتحدث عن ارتفاع حالات السرطان بـ81% في2040 في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، بسبب عدم كفاية الموارد اللازمة للوقاية، وعدم كفاءة جهود مكافحة الأمراض المعدية [إشارة الى أن الالتهابات المتكررة والمزمنة "تمهد" لظهور أورام خبيثة] وتحسين صحة الأمهات والأطفال، وعدم كفاءة نُظُم الخدمات الصحية في تلك البلدان في الوقاية من السرطانات وتشخيصها وعلاجها. وكذلك يحذر الموقع من حدوث زيادة عالمية بـ60% خلال العشرين سنة المقبلة، في حال استمرار الأوضاع السائدة حاضراً بالنسبة لأورام الخبيثة.
في الإطار نفسه، سجّلت تلك المنظمة 18,1 مليون حالة سرطان جديدة في 2018، مع وفيات لامست الـ9,6 مليوناً. وتصل معدلات الإصابة به عالمياً إلى 20% بين الرجال (يقضي ثُمنَهُم بأثر ذلك المرض)، وأقل من ذلك قليلاً بين النساء اللواتي تصل نسبة وفيات السرطان بينهن إلى عشرة في المئة. وبصورة عامة، يقدر معدل البقاء على الحياة [السنوات التي تنقضي بعد الإصابة بالورم الخبيث] بقرابة خمسة سنوات، ويقدر أن 44 مليون شخص عالمياً يعيشون ضمن تلك الفترة. وتتوقع المنظمة أن تتراوح أعداد المُصابين به بين 29 و37 مليون حالة بحلول عام 2040.
وفي العام 2000، أضيف إلى جهود الوقاية تخصيص الرابع من فبراير (شباط) يوماً عالمياً لمكافحة السرطان، تحت رعاية "الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان" للتركيز على الوعي والتعليم وتحفيز العمل الشخصي والجماعي والحكومي. وفي 2019، انطلقت حملة "هذا أنا... وهذا ما سأفعل"، وتستمر حتى 2021.