دائماً ما استعيد الحوار الذي دار في إحدى الجلسات التي جرت في العاصمة اللبنانية بيروت عام 2015، وشارك فيها قادة معروفون من اليسار العراقي وتحديداً الحزب الشيوعي. فقد تطرق للتحالفات التي نسجتها هذه القوى على الساحة العراقية مع جميع الأطراف الفاعلة، خصوصاً الدينية التي قد تشكل مظلة لتحركاتها المطلبية. وأكد هؤلاء أن مروحة واسعة من مراكز القرار تشكل مظلة لها في وجه السلطة، وأنها استطاعت الحصول على رعاية من المرجعية الدينية في النجف ودعم من التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر وتأييد من الجانب الأميركي. وعبر هؤلاء عن إيمانهم بأن التظاهرات المطلبية التي يشهدها العراق ضد السلطة الفاسدة ستحقق الأهداف التغييرية في النظام السياسي القائم، وأن المسار الذي تسلكه هذا التظاهرات لتشكل حراكاً شعبياً "شاملاً" وعاماً في العراق، تشارك فيه الطبقات الفقيرة والمتوسطة وترفده الطبقة المثقفة والمدنية التي تعمل على تأطير هذا الحراك، من أجل عراق جديد خارج قبضة أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني.
استعيد هذا الحوار محاولاً فهم محددات آليات العمل السياسي للأحزاب اليسارية والإسلامية العراقية. مرة أحاول ردها إلى ما أسس له عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي بشأن الشخصية العراقية، ومرة أتوقف عند إمكانية وجود أزمة هوية لدى الفرد والأحزاب العراقية على حد سواء. وقد ينزعج من هذا الكلام أصدقاء عراقيون كثر، أتفهم ذلك، ولا أسوغ ما أذهب إليه مجبراً سوى أنه محاولة لفهم آليات تفكير وتفكر لدى مجتمع أرى نفسي منتمياً إليه بحكم النسب والولادة والهوى والحزن والتعب والأمل والتطلع إلى مستقبل واعد أتشاركه معهم بكل ما فيه من عذابات ومساحات أمل.
ولعل أكثر ما استوقفني في سياق هذه التساؤلات، الصعوبة التي وجدتها في فهم التوليفة التي تجمع تحركاً مدنياً يتصدره حزب يساري عريق مثل الحزب الشيوعي مع تيار يرفع شعار الدين والإسلام السياسي المتمثل في التيار الصدري، ويحظى وفق بعض شخوصه البارزين برعاية من المرجعية الدينية، حتى اللجوء إلى تفسير ذلك بمستوى عالٍ من البراغماتية السياسية والفكرية لم يكن قادراً على تقديم الإجابة عن ذلك. وما زاد من تعقيد الأمر عليّ معرفتي بالصراع الحاد والمتجذر بين الشيوعيين والقوى الدينية، الذي لا يصدر عن بعد فكري أيديولوجي لدى الطرفين فحسب، بل هو مرتبط أيضاً بالطبيعة الحادة للفرد العراقي في تبني أي توجه من منطلق عقائدي يصل إلى حد العنف "الثوري" أو "الإلهي". وهو صراع تاريخي ومواجهة سقطت فيها جميع المحرمات، واستخدمت فيها جميع الوسائل وأدوات "التسقيط" من اعتبار الشيوعية كفراً وإلحاداً من جهة المؤسسة الدينية، ووصف المرجعية بالرجعية والنيل المباشر من رمزية هذا المقدس الشعبي من جهة القوى اليسارية والشيوعية.
أحزاب الإسلام السياسي لا تجد حرجاً في التحالف مع الخصم الفكري والأيديولوجي لها في مرحلة من المراحل، من منطلق السعي إلى التمكين، خصوصاً أنها تمتلك في جعبتها مخرجاً دينياً وفقهياً لهذا التعاون ومسوغات الخروج منه لاحقاً بالاعتماد على الفتوى. ولعل هذا ما اعتمدته القوى الشيعية منذ بداية التغيير في العراق بعد أبريل (نيسان) 2003، في التعامل مع الوجود الأميركي واعتباره فرصة وسلماً تصعده للوصول إلى السلطة وإشباع حرمانها التاريخي في الحكم. وهو ما تلجأ إليه في هذه المرحلة القوى السنية التي انتقلت من حال العداء للدور الأميركي وتحميله مسؤولية خسارتها السلطة، إلى حالة التحالف معه على خلفية العداء للنفوذ الإيراني الذي يسعى إلى مصادرة القرار العراقي من بوابة الأحزاب الدينية الشيعية الموالية له على حساب دورها التاريخي. وكلا الطرفين لا يجدان أزمة في تسويغ هذه التحولات، معتمدين على إرث ديني وفكري يستمد معادلة أن "كل الطرق تؤدي إلى الله"، التي يقوم عليها العرفان الشيعي (المسمى الشيعي للتصوف) وعلى المستوى السني من الحركة الصوفية وطرقها المتنوعة المعروفة في العراق.
في مطلع عام 2018 وبعد اتضاح صورة التحالفات بين القوى والأحزاب السياسية العراقية تمهيداً للمشاركة في الانتخابات النيابية التي أنتجت البرلمان الحالي، توقف كثيرون من المتابعين والمراقبين أمام التحالف الذي جمع بين التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي الذي يعتبر من أقدم الأحزاب الشيوعية العربية. وبدا أن هذا التحالف هو امتداد للمعادلة التي تبلورت في احتجاجات عام 2015 وما بعدها، تحالف محكوم بإغواء السلطة لدى الشيوعيين وتعويضاً عن تجربتهم التي قادت إلى فشلهم في السلطة مع انقلاب عام 1958 وتحالفهم مع عبد الكريم قاسم، وما جرته عليهم من ملاحقة دموية قام بها حزب البعث في الانقلابين الأول والثاني واستيلائه على السلطة. في مقابل طموح لدى الصدر الساعي إلى الاستحواذ والتحول إلى المرجعية السياسية ولاحقاً الدينية الأولى في العراق. وهو لم يتردد في التخلي عن أي من التحالفات التي عقدها مع أطراف وقوى سياسية في أي مرحلة من المراحل عندما يشعر أنها باتت تشكل عبئاً على مشروعه أو طموحه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا، يمكن اعتبار التحالف الذي قام بين اليسار العراقي والتيار الصدري في الانتخابات البرلمانية وفي الحراك الشعبي المطلبي والتغييري، هو تحالف مصلحي بين تيارين وتوجهين شموليين، كل واحد منهما ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الآخر وإخراجه من اللعبة لمصلحة مشروعه الخاص، وهو تحالف يكمن وصفه بأنه يشبه "الزواج المؤقت" الذي ينتهي عندما تنتفي حاجة أي من الطرفين للطرف الآخر، أو عندما يصل أي منهما إلى حالة من الإشباع السلطوي والقدرة على السيطرة والإمساك بمفاتيح القرار.
وهنا، يمكن القول إن المسار الذي سلكه الحزب الشيوعي في التحالف مع التيار الصدري، ساهم في خلق حالة من "الضبابية" انعكست بشكل واضح على آلية تقدير الموقف لدى قوى التيار المدني التي استكانت لتقارب موقفها مع الشيوعيين تجاه أحزاب الإسلام السياسي. ما سهل عملية خداعهم وقبولهم السير في هذا التحالف، خصوصاً في الاعتقاد- حد التسليم - بتطابق أهدافهم مع أهداف زعيم التيار الصدري، والشعارات التي ترفعها ساحات الاعتراض التي تعم العراق مطالبة بالإصلاح والتغيير. في حين أن الصدر لم يتردد خلال تجربته السياسية في التخلي عن تحالفاته عندما تصطدم مع مصالحه والمصالح السياسية الداخلية والإقليمية لتياره، وينقلب على كل مواقفه التي شكلت أساس تحالفاته.
خلاصة القول، إن الصدر لم يخدع أحداً ممن اختار الدخول في تحالف معه أو القبول به شريكاً في العملية السياسية وصولاً إلى الحركة الاعتراضية. فهو أكثر الجهات السياسية العراقية وضوحاً في المواقف التي يذهب إليها خدمة لرؤيته الشمولية، ويدخل في تحالفات من دون أوهام التطابق أو الاندماج. في المقابل، يبدو أن المتحالفين مع الصدر اختاروا غض النظر عن قراءة تجاربه السابقة، ومحاولة البعض استغلاله لتعزيز موقعه في السلطة. في حين أن البعض الآخر كان مجبراً على الركون والقبول بمشاركته وشراكته لتصليب جبهته في مواجهة السلطة وأحزابها الإسلاموية. وهنا، يصبح انقلاب أصحاب القبعات الزرق من التحالف مع المعترضين وحمايتهم في الساحات إلى قوة لقمعهم وإرهابهم وتفريقهم مجرد تفصيل في مشروع زعيم التيار الصدري الشمولي.