هل تعيش رواية الإنجليزي جورج أورويل "1984" بكل تألقها ويهائها حية بيننا حتى اليوم بفضل قوتها الفنية وجمال لغتها الأدبية... باختصار لكونها واحدة من الأعمال الأدبية الشامخة في القرن العشرين وما يليه؟ هذه المواصفات التي تنطبق بالتأكيد على مروحة عريضة من الأعمال الأدبية التي عرفها القرن الفائت وورثها قرننا هذا الذي يليه، تنطبق بالتأكيد على أعمال لكافكا وجوزف كونراد وتوماس مان وماركيز ونجيب محفوظ واللائحة لا تنتهي ضامّة أسماء الأكثر حداثة والأكثر كلاسيكية والبين بين من كبار الكتّاب الذي قُرئوا على نطاق واسع في العالم أجمع وساهموا في بقاء فن الرواية متألقا ووسيلة للتعارف بين الشعوب والأفراد... هل يمكنها أن تنطبق على أورويل؟
الحقيقة أننا إذا حكمنا على الأمور من خلال روايتي أورويل الأساسيتين "مزرعة الحيوانات" و"1984" لن نطلع إلا بإجابة مبهمة. فأورويل الذي يتمتع بشهرة ومكانة قد تفوقان ما للكتاب الذين ذكرناهم، لا يمكن أن يُعتبر فنيا مساويا لهم، لكنه بالتاكيد يُقرأ كما يُقرأون وربما أكثر، ويُحبّ أدبه كما حال أدبهم وربما أكثر. بيد أن المشكلة تبدأ مع أورويل حين نحاول أن نُخضع أدبه ولا سيما روايته الأشهر "1984" لمقاييس النقد الأدبي أو حتى متعة القراءة. هنا سيبدو هذا العمل مملا في بعض الأحيان، غير منطقي في أحيان أخرى تتقاطع فيه ثرثرات علمية لا تنتهي مع لحظات يجب الاعتراف بأنها لا تخلو من قوة قصوى وجمال أخّاذ. وحسبنا مثلا استعادة مشاهد الحب بين ونستون وجوليا ثم المشهد الأخير بينهما بعد خيانة كل منهما للآخر، وحسبنا المشاهد القاتلة بين ونستون وأوبريان حين نكتشف خدعة الثاني للأول وخيانته له، والمشاهد التي تدور في صفوف "البروليتاريين"، لنجدنا أمام كاتب كبير بالفعل.
ظروف خارجية
ولكن في المقابل ها هي تطل علينا شروحات "إيديولوجية" ومواقف سياسية، ووقفات عند كتاب المتمرد غولدشتاين ستبدو على الفور مسهبة وخارجة عن السياق، حتى نعود بسلبية بالأحرى، إلى طرح السؤال المزعج حول القيمة الفنية للرواية. إذا انطلاقا من الموقفين لا بد أن نتساءل لماذا يحدث لـ"1984" أن تعود إلى الواجهة بقوة إستثنائية بين الحين والآخر، فيما تغيب تماما في مراحل معينة وتصبح في مهب النسيان، فيما نعرف أن من خصائص الأعمال الأدبية الكبيرة أنها تظل ذات حضور متواصل؟ الجواب بسيط: "1984" رواية ذات رسالة. ورسالتها تبدو آنية تماما، بحيث أن حضورها وغيابها يرتبطان بظروف تأتي من خارجها وربما من قشور فيها، مثل عنوانها مثلا؛ ما يعني بالأحرى أن الرواية تخضع للإستخدام. هي رواية ترتبط بما يحدث في العالم. ولعل هذا سرّ وجودها وقوتها.
فهي حين صدرت في العام 1949، حاملة في عنوانها تاريخا مقلوبا هو "1984" كعكس لعام كتابتها 1948 نُظر إليه على الفور بكونها ديستوبيا الحرب الباردة وتكاد تلخص المواقف الغاضبة التي كان يقفها أورويل في آخر أيامه من الأنظمة الستالينية بعدما "اكنشف خيانة موسكو للتقدميين خلال الحرب الإسبانية" التي خاضها بنفسه بإيمان أول الأمر. ومن هنا اعتُبرت رواية الحرب الباردة لسنوات طويلة بعدما تمت مماهاة "الأخ الأكبر" فيها بستالين بكل سهولة و"الحزب" بالحزب الستاليني وما يحدث في القاعة 101 بما حدث في محاكمات موسكو، الخ.. كانت الشفافية واضحة حتى وإن سعى أورويل إلى التغطية على مراميه بنقل الأحداث إلى لندن التي أضحت عاصمة "أوسيانيا" التي تضم ثلث الكرة الأرضية وتحارب حينا "أوراسيا" وحينا "إيستازيا". ونعرف أن الكذب في الإعلام والأرقام والمنجزات ومحو شخصية الرفاق المواطنين وانتفاء الحب الحقيقي من القواميس بل حتى الإشتغال على تلك اللغة الجديدة البائسة المتحدرة من إنجليزية تختفي، كلها من إنجازات تلك الحضارة الجديدة التي تقوم على حكم الحزب الواحد والإيديولوجيا الواحدة وتحويل الحب إلى كراهية والسلام إلى حرب والكذب إلى حقيقة وزرع شاشات في كل مكان تحصي عليك حركاتك وكلامك مكبّلة إياك حتى محو فرديتك تماما، نعرف أن هذا كله يشير إلى الستالينية بكل وضوح. والتمويه هنا لم يخدع أحدا.
من هنا، حين "انتهت" الحرب الباردة، كان أمام الرواية امتحان أساسي: هل تصمد وتحافظ على قيمتها؟ في رأينا سقطت يومها في الإمتحان. ولقد تجلى ذلك السقوط في العام 1984 تحديدا، العام الذي يُفترض أن تتحقق نبوءات أورويل ويشهد العالم فيه ما يعكس أحداث الرواية، لكن ذلك لم يحصل، بل حصل ما هو عكسه تماما: كان الاتحاد السوفياتي على وشك الزوال، ومرغريت ثاتشر تحكم بريطانيا... إلى آخر ما هنالك. ومن هنا بدت الاحتفالات بالرواية هزيلة، فلا هي كانت نافعة سياسية، ولا هي بدت متألقة فنيا؛ في الحالين تفوقت عليها بضع روايات مشابهة إنما أكثر فنية بكثير، مثل رواية ألدوس هاكسلي "أفضل العوالم الممكنة" ورواية راي برادبري "فهرنهايت 425" وهما الروايتان التي اعتيد ذكرهما في كل مرة تذكر فيها. وهكذا مرّ العام الاحتفالي بائسا بالنسبة إلى أورويل وروايته.
عودة من طريق دونالد ترامب
ولكن فجأة قبل ثلاث سنوات من الآن، عادت "1984" إلى الواجهة دالفة اليها من أغرب باب يمكنها أن تدلف منه. فمثلا في وقت كان يمكن للرواية فيه أن تعكس، ولو قليلا، الوضع في موسكو حيث يحكم مسؤول سابق في الكي جي بي، كان مكان الإطلالة واشنطن! وكان ذلك بالتحديد حين جرى انتخاب واحد من أكثر دعاة الفردية والليبرالية السياسية – بالمعنى الرجعي للكلمة وليس بالمعنى التقدمي الأميركي - تاجر العقارات الشاطر و"الحكوجي" دونالد ترامب رئيسا من حيث لم يكن أحد يتوقّع. فللوهلة الأولى كان من شأن حكم ترامب أن يبدو نقيضا تماما للحكم الذي تصوّره الرواية بحيث يبدو وكأن حكم شاغل البيت الأبيض الجديد وحكم مماثليه في المجر وبولندا ثم في إيطاليا وغيرها، ودنو اليمين المتطرف من الإليزيه في فرنسا، واللائحة تطول عن يمين متطرف و"ليبراليين" يشغلون الساحة في بلدانهم ويحررون التجارة إلى حدود الفوضى ويزيدون الضرائب على الفقراء ويخففونها عن الأثرياء، يبدو هذا كله وكأنه ينسف الرواية من أساسها بكل ما فيها ومن فيها في عالم لا يعود فيه أمثال ونستون من المنشقين مضطرين للإنشقاق ومجهزين لأن يغدر بهم أقرب الناس اليهم ثم يغدرون هم بحبيباتهم ويتعرضون إلى عذاب في السجن ما بعده من عذاب حتى اللحظة التي ينالون فيها العغو بعد أن يكونوا قد اعتادوا الإيمان بالحزب والهيام بـ"الأخ الأكبر" كما يفيدنا السطر الأخير في الرواية.
كان هذا هو المتوقع بما فيه دفن للرواية إلى الأبد بإفقادها بعدها الإيديولوجي و"صدقيتها" السياسية. ولكن الوضع في واشنطن مع حلول الرئيس ترامب في البيت الأبيض فعل العكس تماما، حيث خلال أسابع قليلة يومها عادت "1984" تسجل أرقام بيع قياسية وتُقرأ على نطاق واسع وتصوّر كتحقّق، ولو موارب، لنبوءة أورويل حول "الأخ الأكبر" وامّحاء الفردية وحكم الحزب الواحد والعيون التي تراقب الناس في كل مكان، وما إلى ذلك. والحقيقة أن ذلك الربط بين ما يحدث في أميركا ترامب وما يحدث في رواية أورويل بدا من أعجب الأمور. ولكن ما العمل وقد توافق ملايين القراء الأميركيين - وغير الأميركيين إذ سرعان ما غدت عودة الرواية ظاهرة عالمية (!) - دون اتفاق مسبق بينهم على أن العودة إلى قراءة "1984" حاجة ماسّة كي يفهموا ما الذي يحدث في بلادهم؟ ما العمل وقد رأوا أن الحاجة تعود من جديد لسبر أغوار عمل أدبي ها هو يعود إلى الحياة من قبره في كل مرة نعتقده اختفى إلى الأبد؟. وفي حقيقة الأمر أننا للإجابة على مثل هذه الأسئلة قد يجدر بنا أن نقرأ هانّا أرندت بقدر ما نقرأ "1984" لكن هذه حكاية أخرى ستكون لنا عودة إليها ذات مرة.