كانت الصين بارقة الأمل في أسواق النفط بسبب توقع استمرار نمو الطلب، إلا أن فيروس كورونا قتل ذلك، في الأقل في الربع الأول من هذا العام. وقد أثّر كورونا على طلب النفط من خلال عدة قطاعات، أهمها المواصلات والسياحة، بخاصة وقود الطائرات، والتجزئة والصناعة والتدريب والتعليم، وهي مواضيع ذكرت في مقالات سابقة.
مشكلة أسواق النفط الآن هي المبالغات في وسائل الإعلام، ومحاولة بعض المحللين ومشاهير وسائل التواصل الاجتماعي تصوير الأمر وكأنه نهاية العالم. وأدناه بعض الأمثلة.
نشرت "بلومبيرغ" في الأسبوع الماضي تصريحا لأحدهم، من دون ذكر الاسم، يقول إن الطلب انخفض في الصين بمقدار 3 ملايين برميل يوميا. هذا الرقم الهائل بكل المقاييس هو الفرق بين أعلى استهلاك في السنة - وهو في يوم واحد فقط خلال عطلة نهاية السنة الصينية- والأرقام الحالية. بعبارة أخرى، الأمر كالعريس الذي يقارن تكاليف يوم عرسه بدخله الشهري، وكأن ما أنفقه يوم العُرس يتكرّر كل يوم. وقد تراجعت "بلومبيرغ" في ما بعد، في خبر نشرته الأحد، أشارت فيه إلى أن الانخفاض يقدر بمليوني برميل يوميا، وليس ثلاثة!
كما نشرت صحيفة "الفاينانشيال تايمز"، وهي من أعرق صحف الأعمال والاستثمار في العالم، خبرا مفاده أن الطلب الصيني انخفض بأكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا، بسبب انخفاض نسبة تشغيل المصافي، وقالوا إن هذا دليل على انخفاض كبير في الطلب على النفط في الصين بسبب فيروس كورونا.
انخفاض مدخلات النفط للمصافي صحيح، ولكن لم يحصل ذلك بسبب كورونا. فقد أعلنت شركات النفط الصينية منذ نهاية العام الماضي، وقبل تفشي الفيروس، إغلاق بعض المصافي جزئيا أو كليا لإجراء عمليات الصيانة الفصلية، وهو إجراء روتيني يحصل في هذا الوقت من كل عام.
ويقوم بعض المحللين بتحليل آثار كورونا في الطلب على النفط بناء على أثر فيروس "سارس"، الذي ضرب الصين في عام 2003، كما قام بعضهم بمقارنته بوقف حركة الطيران يوم حادثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. المشكلة أن الانخفاض الكبير في أسعار النفط في عام 2003 يعود أغلبه إلى الغزو الأميركي للعراق، والتجهيزات التي سبقته. فقد تم تخزين النفط بكميات كبيرة، كما تم تخزينه في حاملات نفط عائمة بالقرب من الأسواق الرئيسة، ومع بدء الهجوم يوم 19 مارس (آذار) من عام 2003، تدفق هذا المخزون بقوة في الأسواق، لمنع أسعار النفط من الارتفاع، فانخفضت انخفاضا كبيرا. لهذا لا يمكن القول إن الانخفاض الكبير في أسعار النفط في عام 2003 يعود كله إلى فيروس "سارس".
أما عن أثر حادثة 11 سبتمبر، فإن حظر الطيران كان كليا في الولايات المتحدة بقرار حكومي، بينما كان وقف حركة الطيران بسبب كورونا متقطعا وقامت به الشركات، من دون أي حظر حكومي. لذلك لا يمكن استخدام انخفاض الطلب على وقود الطائرات يوم 11 سبتمبر والأيام التي تلته في تحليل أثر كورونا في حركة الطيران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن ضمن المشاكل أيضا، أن المتطرفين في رؤاهم تجاه أزمة كورونا وتوابعها، والذين يضخمون الأمر كلما قامت الحكومة الصينية بإغلاق حي أو مدينة للسيطرة على انتشار الفيروس، مخطئون في طريقتهم، لسبب بسيط: الأزمة ستكون أكبر بكثير إذا لم تقم الحكومة الصينية بذلك، وهم بذلك يناقضون أنفسهم. والمثال التالي من الحرب العالمية الثانية يوضح ذلك: طلب ضابط من الطيارين عمل خريطة لكل الثقوب من الرصاص الذي أطلق على الطائرات العائدة من سماء المعركة من أجل تصفيحها. فاعترض أحد الطيارين قائلا "العكس هو الصحيح، علينا تصفيح المناطق غير المصابة، لأن الطائرات التي أصيبت في تلك الأماكن لم تعد!". هذا يعني أن الذين يبالغون في التخويف من آثار كورونا في الأسواق يعدّون ثقوب الطائرات العائدة، وتناسوا الطائرات والطيارين الذين سقطوا في أرض المعركة! لهذا يجب أن يُقاس أثر نتائج فيروس كورونا بمقارنة أسوأ حالة بحالة عدم وجود الفيروس، ثم مقارنة الوضع الحالي من الحَجر المفروض بحالة عدم وجود الفيروس. هذا سيعطينا صورة أوضح عن الأثر، كما سيوضح آثار الحَجر.
توصيات اللجنة الفنية لـ"أوبك+"
اجتمعت اللجنة الفنية لـ"أوبك+" خلال الأسبوع الماضي لمدة ثلاثة أيام بدلا عن اليومين المقررين سابقا، واستمعت لعدد كبير من الخبراء والشركات الاستشارية، بما في ذلك سفير الصين في النمسا. وأوصت بتمديد تخفيض الإنتاج الذي تم الاتفاق عليه في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، والبالغ 2.1 مليون برميل يوميا إلى نهاية العام بدلا عن نهاية مارس (آذار) المقبل، كما أوصت بتخفيض الإنتاج مباشرة بمقدار 600 ألف برميل يوميا، وحتى نهاية يونيو (حزيران). إلا أنه ما زال من غير المعروف حتى الآن إذا ما كان وزراء "أوبك" سيجتمعون قبل الاجتماع المقرر في بداية مارس، أم سينتظرون حتى وقت الاجتماع المقرر. كما أن روسيا، ولسبب ما، قررت التريث في القرار. أحد التفسيرات أنها تنظر إلى مدى تأثر صادراتها النفطية إلى الصين.
الواقع أن اللجنة اجتمعت في وقت بالغ الصعوبة، وكان من الصعب اتخاذ أي قرار سريع بسبب عدم وضوح الموقف في الصين، وضبابية الآثار العالمية، وتعدّد وتناقض آراء الخبراء. لهذا كان من الواضح أن عليها اللجوء إلى أكثر الطرق سلامة، وهو إدارة المخاطر بأقل آثار سلبية ممكنة. فتمديد اتفاق التمديد يضمن تفادي آثار عودة النفط الليبي إلى الأسواق، بينما التخفيض المؤقت يعوض عن انخفاض الطلب الناتج عن كورونا (وإن كان التخفيض لنهاية العام لاحتواء زيادة الإنتاج من ليبيا هو في النهاية لمقابلة انخفاض الطلب الناتج عن آثار كورونا). إلا أن تخفيض 600 ألف برميل، يوميا فورا وحتى نهاية شهر يونيو، مشكوك في آثاره حتى لو تم تبنيه، لأن شحنات الشهرين المقبلين من النفط مجدولة على كل الحالات، وبالتالي فأثره في الأسواق بسيط. أضف إلى ذلك أن الشتاء في الولايات المتحدة وأوروبا كان دافئاً نسبيا، الأمر الذي خفض الطلب على وقود التدفئة بشكل كبير، ما يتطلب تخفيضا أكبر من "أوبك+".
إلا أن الأمر الإيجابي هو أن توقعات أوبك ووكالة الطاقة الدولية في الربع الأخير من العام الماضي (قبل تفشي كورونا) لانخفاض الطلب فصليا في الربع الأول كان مبالغا فيه أصلا، وبالتالي فإن هذه المبالغة ستغطي جزءا من انخفاض الطلب على النفط بسبب آثار كورونا والشتاء الدافئ. بعبارة أخرى، يغطي التخفيض السابق في ديسمبر للإنتاج جزءا من انخفاض الطلب على النفط حاليا.
وإذا أرادت "أوبك+" فعلا تخفيض المخزون بشكل ملحوظ في النصف الثاني من العام الحالي، فإن عليها أن تقوم بتخفيض إضافي قدره 1.4 مليون برميل يوميا، بدلا عن 600 ألف المقترحة، منها 1.1 لتغطية آثار كورونا، و300 ألف برميل يوميا لتغطية آثار الشتاء الدافئ حتى نهاية يوليو (تموز) المقبل. هذا التخفيض سيخفض المخزون، وسيرفع الأسعار إلى ما بين 65 و70 دولارا للبرميل، وهو مستوى مقبول أميركيّاً وقت الانتخابات، من دون جعل موضوع البنزين والنفط كرةً انتخابية.
تقرير صندوق النقد عن نضوب الموارد المالية لدول الخليج بعد 15 سنة
المحور العام للتقرير قديم، والخبراء تكلموا به خلال العقود الأربعة الماضية، لذلك لم يأتِ بجديد. ولا ينكر أحد أن اقتصاديات دول الخليج تعاني من مشاكل عديدة حاليا ومستقبلا. وما تبنّي الخطط الخمسية والرؤى المختلفة، بما في ذلك رؤية 2030 في السعودية، إلا إدراك لهذه المشاكل ومحاولة لتفاديها أو حلها. إلا أن هذا التقرير يتفرّد عن ما سبقه من تقارير بأنه "ركيك وضعيف"، ويعاني من أخطاء فظيعة، لا يمكن لباحث جامعي أن يرتكب مثلها. وفي ما يلي ملخص لعدد من الأخطاء:
1- مقارنة تكاليف العمليات (التكاليف المتغيرة) للنفط الصخري بالتكاليف الكلية لإنتاج النفط في الخليج والعالم، الأمر الذي جعل تكلفة الصخري نصف حقيقتها، والاستنتاج بأن الصخري منخفض التكلفة وينافس النفوط الخليجية. ولو استخدمت التكاليف الكلية، كما هو العرف، لحصلنا على عكس نتائج التقرير!
2- الدراسة عن دول الخليج وصادرات نفطها وإيرادتها من هذه الصادرات. إلا أن الدراسة استخدمت أسعار واردات النفط الأميركية. وللحصول على أسعار النفط الحقيقية استخدمت معدلات التضخم في الولايات المتحدة. هذا الأمر لا يؤدي إلى رسوب الطالب نتيجة هذه الأخطاء، بل يكفي للطرد من الوظيفة أيضا.
3- استخدمت الدراسة بيانات الطلب على النفط للفرد، بدلا عن الطلب الكلي. وبهذا، فإن زيادة السكان تعني بالصورة انخفاض الطلب المستمر على النفط. وبناء عليه، انخفاض مستمر في إيرادات دول الخليج من صادرات النفط.
4- أجرى مؤلفو الدراسة محاكاة لكل العوامل التي تخفض الطلب على النفط، وافترضوا أن اتجاهاتها التاريخية ستستمر، إلا أنهم لم يطبّقوا الطريقة نفسها على نسبة إيرادات النفط في الناتج المحلي، حيث افترضوها ثابتة طيلة الوقت، وهذا يخالف المنطق، ويخالف المبادئ الأكاديمية للبحث.
5- النتائج تعارض ما ذكر في الدراسة نفسها: الدراسة تتوقع زيادة الطلب على النفط من 100 مليون برميل حاليا إلى 115 مليون برميل يوميا في منتصف الثلاثينيات من القرن الحالي، ثم ينخفض إلى نحو 110 ملايين برميل يوميا في عام 2050. إذا كان الطلب سيزيد بهذا الشكل، أين المشكلة إذا؟ وكيف ستنخفض إيرادات دول الخليج وتتلاشى احتياطياتها النقدية إذا كان الطلب على النفط سيزيد بهذا الشكل؟
خلاصة الأمر أن هناك مبالغات في كثير من الأمور، الأمر الذي يجعل من الصعب على صاحب القرار اتخاذ القرار الصحيح والمناسب في الوقت المناسب. لهذا لا يمكن لوم اللجنة الفنية لـ"أوبك+" أو "أوبك" على أي قرار تتخذه وسط أعاصير من المبالغات والتهويل والأخبار الكاذبة.