دقّت الساعة، وحان وقت إعادة تدوير النكات القديمة، و"شير" الكوميكس العتيدة، وحان وقت تحويل واجهات المحلات، بما في ذلك عربات الكبدة والسجق المتجولة والسوبر ماركت، حيث البيض والجبن والزيت، إلى اللون الأحمر.
لقد آن أوان خروج "الدباديب" من مخابئها، والوسائد "القلب" من كل مكامنها، إنه الـ(فالنتاين)، وأي دبدوب نحيل بـ20 جنيهاً (1.27 دولار أميركي)، والممتلئ بـ30 (1.90 دولار أميركي)، أمّا المحبون والمحبات، الأغنياء منهم والفقراء وبين البينين، خرجوا إلى الأسواق من كل فجٍّ عميقٍ.
بشائر العيد
عمق الاحتفاء بـ"عيد الحب" المعروف بـ"الفالنتاين" في مصر يتضح من وصول بشائره واتضاح معالمه في أماكن تبدو للوهلة الأولى، إنها تقف على طرفي نقيض من عشاء على ضوء الشموع، أو شيكولاتة تحمل ختم المحبين، أو شاب ينحني على ركبته طالباً يد المحبوبة. على الأرصفة المتاخمة لمحطات المترو، وبين تلال الخضراوات والفواكه في الأسواق الشعبية، وفي إشارات المرور ومطبات التهدئة تتكتل بضاعة "فالنتاين" المعتادة.
أكوام من الدباديب والقلوب الحمراء، بعضها يحمل عبارات مكتوبة بالعربية مثل "أنت حبيبي"، و"مين حبيبي أنا؟"، و"حبيبي"، وورود بلاستيكية حمراء مرشوشة بروائح تشبه الفانيليا، وبالونات هيدروجينية على شكل قلوب تلقى رواجاً وتلقى إقبال الملايين.
هذه الملايين من المُقبلين على بضاعة "فالنتاين" المعروضة بسخاءٍ على الأرصفة وفي الإشارات نجحت في تمصير المناسبة الغربية، وتخطي حاجز التحريمات الدينية التي ظلّت تحاول الإطباق على رقبة "القديس" الذي خالف أوامر الإمبراطور الروماني هاد كلاوديوس الثاني بمنع إبرام عقود الزواج بين المسيحيين، ظناً منه أنها السبب وراء عزوف الرجال عن أداء الخدمة العسكرية، وظل القديس أو الكاهن "فالنتاين" يعقد الزيجات ويزوّج المحبين والمحبات في زمن الاضطهاد الديني المسيحي.
الناجون من التحريم
أغلب الناجين من تحريم الاحتفال بالعيد في مصر لا يعرفون أصل وفصل "فالنتاين"، بل الغالبية لا تعرف أن التاريخ نفسه يقف حائراً أمام من يكون "فالنتاين" الحقيقي نظراً لتعدد الروايات واختلاف التأريخات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الناجون والناجيات يشترون ملايين القلوب الحمراء والدباديب الناعمة والورود البلاستيكية دون التوقف للحظة أمام من يكون فالنتاين؟ البعض يردد ما سمعه من صديق أو ما بُثّ عبر برنامج إذاعي.
"كان قديساً مات ضحية الحب"، "كان رجلاً مبروكاً يدعو إلى الحب"، "شخصية أسطورية ترمز إلى الحب والعشق"، وغيرها من المعلومات المنقوصة أو العبارات المعاد تدويرها التي لا تتوقف الغالبية عندها.
لكن، الغالبية تعرف أن هناك من يحرّم الـ"فالنتاين"، ويعدّه بدعة أو تقليداً أعمى. حاتم (27 عاماً) يسكن في حي الزيتون، وهو الحي المعروف منذ سبعينيات القرن الماضي بتجمعات السلفيين ومساجدهم، يقول، "تأثرتُ بما كنت أسمعه في الشارع، وفي الزوايا التي كان، وما زال إلى حد كبير، يسيطر عليها السلفيون من تحريم الاحتفال بفالنتاين. لكن في العامين الأخيرين وبعد كثيرٍ من التفكير وجدت أن الاحتفاء بمشاعر راقية كالحب لا تضر الإيمان أو تمسّ الإسلام بضرر، لا سيما أننا لا نقوم بأعمال مخزية أو نخجل منها. هذا العام أشتري وروداً وشيكولاتة لخطيبتي وأهديها لها. ومن يعلم؟ ربما تهديني دبدوباً أو قلباً".
طبقات مخملية
لكن، هناك فالنتاين آخر تدور رحاه في مصر، وهو خاص بالطبقات المخملية التي لا تعترف بالورود البلاستيكية أو الدباديب المحلية. كم مذهل من الإعلانات والترويجات يجري تداوله منذ أوائل فبراير (شباط) الحالي أملاً في "جر رجل" العشاق الخمسة نجوم.
عشاء رومانسي على أضواء الشموع على نيل القاهرة، أجواء خاصة لو كنت تخطط لطلب يدها في هذا اليوم، شيكولاتة سويسرية مع قلادة حب أبدية لها وحدها، وغيرها من العروض التي تستهدف "العشاق اللي فوق"، المُلاحظ أن أغلب هذه العروض مكتوبة بالإنجليزية.
لكن، بالعربية الصريحة، تتواتر إعلانات الحفلات الغنائية المُقامة في المراكز التجارية الكبرى والنوادي الرياضية ودار الأوبرا المصرية، وهي ظاهرة آخذة في التوسّع، ما يعني قدراً أكبر من القبول المجتمعي بعد سنوات من هيمنة التيار المتشدد والفكر المتطرف، وهو يعني كذلك أن هناك في الأروقة الثقافية والكواليس الفنية من تنبه إلى أدوار ترفيهية وفنية قادرة على درء بعض من مظاهر التطرف وأمارات التشدد.
لكن، الأمر لا يخلو بالطبع من منافع مادية وأرباح خيالية، يحققها القائمون على الحفلات، شأنهم شأن تجار سلع "فالنتاين" الموسميين.
وإضافة إلى حفلات لمطربين مثل أنغام ووائل جسار وهيفاء وهبي وعلى الحجار وهاني شاكر وفريق "بلاك تيما" وغيرهم، التي تقام في مناسبة "فالنتاين"، يحيي عازف البيانو الفرنسي صاحب الشهرة العالمية ريتشارد كلايدرمان حفلاً فالنتانياً موسيقياً للعام الثاني على التوالي.
فالنتاين في المدارس
توالي احتفال المصريين بـ"فالنتاين" يتلوّن في كل عام بألوان أخرى غير الحب وعواطفه، ونذكر من الألوان ظلال "فالنتاين" الوارفة التي باتت تهبط في المدارس الدولية في مصر، حيث تحوّلت المناسبة إلى فرصة للاحتفاء، وجمع قدر من المال لشراء الحلويات، وتبادل بطاقات المحبة والمودة لمن يرغب من الطلاب، وبعضها يتم توجيهه إلى المعلمين والمشرفين.
الإشراف على حركة السير في عددٍ من الشوارع، التي يوجد فيها محلات معروفة ببيع هدايا "فالنتاين" يتحوّل إلى "موسم"، فبين انتشار لرجال المرور يعز وجودهم في الأيام العادية لمنع السيارات من الوقوف في الممنوع أمام المحلات لحين اختيار الهدايا وتغليف الدباديب ونفخ البلالين، وتهافت المتسولين الذين باتوا يعتبرون "فالنتاين" أياماً مفترجة يدعون فيها للحبيب بأن يحفظ له حبيبته، ولمن لا حبيب لها بأن يروقها من أوسع أبوابه، يعاني بعض الشوارع في المدن الكبرى بؤر ازدحام غير معهودة.
تسييس القديس
وقد عهد المصريون أن يجرى تسييس كل ما يمكن وما لا يمكن تسييسه في سنوات ما بعد هبوب رياح الربيع في شتاء 2011، فمن مزج لشعار أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 "عيش... حرية... عدالة اجتماعية" بـ"حب" الوطن والشعب بعد يومين من تنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك في فبراير (شباط) 2011، إلى 2012 وملامح الجماعات الدينية الآخذة في التبلور من تصاعد حدة تحريم فالنتاين إلى "كرنفال" المرشحين في هذا العام، وبينهم من حوى برنامجه الرئاسي مبدأ إلغاء الاحتفال بعيد فالنتاين، إلى 2013 ووصول دعوات التحريم إلى درجة التهديد والترويع للمحتفلين أو حتى من يبيع الدباديب والقلوب.
وفي فبراير (شباط) 2014، ظهر وجه وزير الدفاع حينئذ المشير عبد الفتاح السيسي على واجهات محلات الهدايا وأسطح قوالب الشيكولاتة.
وفي الأعوام التالية عاد الاحتفال بفالنتاين أدراجه إلى سماته الطبيعية، وهو ما لم يمنع بالطبع من إضافة نكهات حداثية هنا، حيث رسائل عنكبوتية ذكية تحوي قلوباً نابضة ورسائل ناطقة، أو سخريات ودعابات لاذعة تحمل إسقاطات سياسية تارة، ومداعبات حول انتشار فيروس كورونا تارة أخرى، والدق على أوتار "السناجل"، مفرد سنجل أو "غير مرتبط" في عيد المحبين.
فتوى الغوث
وتظل السمة الملازمة لفالنتاين في كل عام، سواء مالت مصر تجاه التنوير والتطوير أو حادت جهة التحريم والتطرف، هي طلب الغوث من دار الإفتاء. هل الاحتفال بفالنتاين حلال أم حرام؟
إنه حلال حلال! هذا ما خلصت إليه فتوى صادرة عن دار الإفتاء المصرية في عام 2018 ردّاً على سؤال حول الفالنتاين. "هي مناسبة اجتماعية جائزة شرط عدم خروجها على الشرع".
بالطبع يبقى تعريف "الخروج على الشرع" خاضعاً لتفسيرات وتأويلات مختلفة، بعضها ينطق بقليله في الجهر، والبعض الآخر يُستطرد في تفسيره خلف أبواب المؤسسات الدينية المغلقة.
لكن، جاء فالنتاين العام الماضي 2019 لتفجّر دار الإفتاء المصرية هاشتاغ أثار كثيراً من الجدل بين سعيدٍ وحزينٍ، مؤيدٍ ومعارضٍ، "الحب منهج حياة" تحوّل إلى مادة للشد والجذب، ومعاودة تحريك مياه الاستقطاب التي لم تركد يوماً، حيث اتهامات موجهة إلى المؤسسات الدينية، باعتبارها تابعاً أميناً لنظام الحكم الذي قام رأسه بتنفيذ إرادة المصريين في التخلص من حكم الإخوان، وإشادات موجهة إلى المؤسسة الدينية التي بدأت أخيراً وبعد طول انتظار في مواكبة العصر وعدم معاداة الطبيعة.