إذا كان أعداء النفط عموماً والنفط السعودي على وجه الخصوص لا يريدون الاعتماد عليه، فإنه سيصدّر إليهم بأشكال أخرى! وإذا كانوا يريدون استخدام السيارة الكهربائية للاستغناء عن النفط كوقود، فإن النفط سيصدّر على هيئة مواد لصناعة هياكل هذه السيارات! وإن رغبوا في استخدام الألواح الشمسية وعنفات الرياح لتوليد الكهرباء لتسيير هذه السيارات بدلا عن النفط، فإن الأخير سيصدّر إليهم في شكل ألواح شمسية وعنفات رياح، وإذا شيّدوا أكثر الأبنية كفاءة في استخدام الطاقة، فسيجري تصدير النفط إليهم في هيئة مواد بناء مختلفة!
ليس هذا فحسب، فأمن الطاقة السعودي يتطلب تنويع مصادر الطاقة، وكذا الدول التي يتم تصدير النفط إليها، وأيضاً تنويع البلدان التي تورّد الرياض إليها المنتجات النفطية، بما فيها المواد المذكورة أعلاه.
وتنويع مصادر الطاقة يعني زيادة الاعتماد على طاقة الشمس والرياح، الأمر الذي يخفف بشكل كبير من استخدام النفط والغاز في توليد الكهرباء، ووفق ما هو تاريخي، المفروض أن تُصدر هذه الكميات المحررة من النفط والغاز إلى الأسواق الخارجية، لكن زيادة العداء للنفط وتبني حكومات الدول المستهلكة لسياسيات دعم السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، إضافة إلى التقدم التكنولوجي المدعوم حكومياً، عوامل جعلت السعودية تتخذ الخطوات الأوليّة لاستخدام النفط والغاز في صناعة المواد اللازمة لبناء بنية تحية ضخمة من الطاقة المتجددة.
العداء للنفط
تاريخياً، جرى تأطير العداء للنفط عموماً ونفط الخليج بشكل خاص ضمن الصورة النمطية للمقاطعة النفطية عام 1973 في العالم الغربي، ثم تعمقت الصورة وتم تلوينها بصبغة عدم استقرار المنطقة بسبب الثورة الإيرانية في عام 1979، ثم الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988، ثم الغزو العراقي للكويت في عام 1990، ثم حرب الخليج في عام 1991، ثم الإرهاب، وصولاً إلى حادثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثم الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، ثم الإرهاب مرة أخرى.
وفي هذه الظروف كوّن الفكر الغربي كماً هائلاً من النظريات السياسية والاقتصادية والكتابات التي تركز على فكرة "أمن الطاقة" وربط النفط بالإرهاب وضرورة تخفيض الاعتماد على النفط عموماً ونفط الخليج بشكل خاص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير البيانات إلى أن الدول الغربية نجحت إلى حد كبير في ذلك، إلا أن النمو السريع للمارد الصيني والنمور الآسيوية عوّض عن ذلك، فلم تتأثر الدولة الخليجية المنتجة للنفط بسياسات الغرب كثيراً، حيث حوّلت صادراتها إلى الدول الآسيوية.
وأمام هذا العداء، هناك أربعة خيارات أمام الدول المنتجة للنفط:
1- تجاهل العداء والتركيز على إنتاج وتصدير النفط، ولكن لهذه السياسة مخاطرها في ظل التغيرات في أسواق الطاقة.
2- تصديق ما يُقال ومحاولة الهروب من النفط والتركيز على مصادر الدخل الأخرى، ولكن هذا يعني التخلي عن مصدر مهم للطاقة والدخل.
3- زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار لضرب كل مصادر الطاقة البديلة وإفشال السياسات المعادية للنفط، إلا أن لهذه السياسة مخاطر اقتصادية وسياسية عِدة.
4- التركيز على الصناعات الكثيفة الطاقة وتصدير منتجاتها إلى الدول الصناعية، وهكذا يستمر تصدير النفط إلى نفس الدول التي تحاول التخلص منه، ولكن مُتضمَناً في منتجات مختلفة، وهذه السياسة تجمع بين انخفاض المخاطر الاقتصادية والسياسية، وتضمن استمرار تدفق الدخل مستقبلاً.
ثم تحول تأطير العداء وجرى ربط النفط بالتغيُر المناخي، ونتج عن ذلك، إضافة إلى موضوعات أمن الطاقة، تبني الدول المستهلكة للنفط سياسات الدعم الكبيرة لكل بدائل النفط وللسيارات الكهربائية.
وأثار الدعم المالي وغير المادي الضخم للسيارات الكهربائية، وانتشار توقعات ببلوغ الطلب العالمي للنفط ذروته خلال العقدين أو الثلاثة المقبلة، وإقتناع بعض كبريات شركات النفط العالمية بذلك، مخاوف كبار منتجيه في العالم، فكان لا بد من تخفيف المخاطر المستقبلية عبر تبني سياسات أكثر عمقاً من قبل، وذلك بالتركيز على السياسة الرابعة أعلاه.
الأمر لم يعد يقتصر على إنتاج البتروكيماويات وتصديرها، بل أصبحت الأهداف أكثر دقة، والتي حددها الأمير عبد العزيز بن سلمان، وزير الطاقة، خلال كلمته التي ألقاها في مؤتمر سابك 2020 يوم الأحد الماضي، وذكر فيها أن الخطة الحالية تتضمن تحويل النفط إلى مواد تستخدم في الطاقة المتجددة وفي الأبنية والسيارات وغيرها، وليس هناك تعبير عن الموضوع أحسن مما قاله الأمير في كلمته "فعلى سبيل المثال، البترول، الذي سيتوفر نتيجة إدخال مصادر الطاقة المتجددة على مزيج الطاقة في السعودية، سيتم تحويله إلى مواد بتروكيمائية، تُستخدم في تصنيع مواد مستدامة، تسهم في إنتاج الطاقة المتجددة، وإنتاج المواد البوليميرية المستخدمة في توربينات الرياح، ويسعدني أن أعلن، في ھذا المؤتمر، عن إطلاق برنامج (استدامة الطلب على البترول)، الذي یعمل تحت مظلة اللجنة العلیا للمواد الھیدروكربونیة، التي یرأسھا ولي العھد".
وبحسب وزير الطاقة "يهدف هذا البرنامج إلى رفع الكفاءة الاقتصادیة والبیئیة للاستخدامات المختلفة للزيت والغاز التقليديين، وغير التقليديين، والتركيز على الابتكار في استخداماته بشكل مستدام وصدیق للبیئة، ومن ذلك، على سبیل المثال، تطویر مواد غیر معدنیة، كبلاط البولیمر، والخرسانة البولیمریة، والبلاستیك المقوى بالألیاف الزجاجیة، مما یحفز ویُنمي الطلب على المواد الھیدروكربونیة ویجعلھا أكثر استدامة، وبالتالي يزيد من الطلب على الزیت والغاز في المستقبل، ویرفع حصة السعودية منه".
واختصر الأمير الفرص القادمة في الحقيقة التالية والتي تلخص الموضوع كله بقوله "المعروف أن المواد البولیمریة تمثل نحو 6 في المئة فقط من تلك المستخدمة عالمیاً، بینما تمثل المواد الأخرى، كالحديد والألومنيوم والزجاج والورق 94 في المئة، وهذا يعني أن هناك فرصة كبيرة جداً لنمو الطلب على الزيت والغاز، وذلك لدعم مساعي إبدال المواد التقلیدیة بأخرى بولیمریة مبتكرة ومستدامة".
هل ينقلب السحر على الساحر؟
مارست الدول المستهلكة للنفط أساليب التهويل والتخويف، فنجحت في بعض السياسات وفشلت في الآخر، فهذه الدول وممثلوها، بما في ذلك وكالة الطاقة الدولية، لم تدرك أن المبالغة في إنتاج النفط الصخري على المدى الطويل، والمبالغة في آثار السيارات الكهربائية في الطلب على النفط، وفي أمور التغير المناخي، ستأتي بنتائج عكسية، تضر مستقبلاً بمصالح هذه الدول.
لنتصور الوضع التالي، قيام السعودية بالتركيز على تحويل النفط إلى مواد مختلفة كما ذكر وزير الطاقة أعلاه، ثم تبين بعد سنوات أن إنتاج النوع الصخري لن ينمو كما كان متوقعاً، وأن آثار السيارات الكهربائية وتحسن كفاءتها أقل مما هو مفترضاً، عندها سيكون الطلب على النفط أعلى بكثير من المتوقع، ولكن ليست هناك كميات إضافية منه لأن الدول النفطية أجادت تقنية تحويله إلى منتجات أخرى! وهنا سترتفع أسعار النفط بشكل كبير، وستستفيد الدول النفطية من الجانبين، بينما ستعاني اقتصادات الدول المستهلكة من ارتفاع أسعار الوقود والمواد معاً، وحينئذ سينقلب السحر على الساحر!