في العام 2009، أو قبل ذلك بقليل، ظهر في أحياء شعبية في مصر للمرة الأولى ما يعُرف بـ "أغاني المهرجانات"، وفي بعض المسميات "إلكترو شعبي". وبعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، طغى هذا اللون الفني وأصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها. توقع الكثيرون لها الاختفاء خلال عام أو عامين أو ثلاثة على الأكثر؛ لكن يبدو أنها قد خيَّبت التوقعات، فها هو عِقدٌ يمر، فيما "المهرجانات" هي "العلامة" الأبرز فنياً لمصر بالنسبة حتى إلى العالم في السنوات العشر الأخيرة. ومن الواضح أن هذه الظاهرة ما زالت في طور الفتوة، تجدد في أدائها باستمرار كي تَبعُد عن الرتابة، ومن ثم فإن انحسارها في مدى منظور يبدو صعب المنال. ويلاحظ كذلك أن دائرة انتشارها تتسع، فمغنوها سافروا بها إلى حفلات في فرنسا وأميركا وكندا وهولندا. وحتى البلاد العربية المتحفظة باتت تستعين بمغنّي تلك "المهرجانات" لإحياء حفلات فيها، ومعلقو مباريات كرة القدم من مختلف البلدان العربية باتوا يستخدمون كلماتها، كما دخلت عالم السينما والتلفزيون والمسرح، وانتقلت من الأحياء "العشوائية" التي أنتجتها إلى عالم الطبقات الأرستقراطية.
وفي صدد تحليل هذه الظاهرة، يأتي كتاب الشاعر المصري يسري حسان "هتاف المنسيين... أغاني المهرجانات من العشوائيات إلى أولاد الذوات"، الصادر حديثاً عن دار "بتانة" في القاهرة ويعد الأول في مجاله. هذا العنوان يحلينا على كتاب باحث علم الاجتماع المصري سيد عويس؛ "هتاف الصامتين... ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري"، والذي جمع فيه مؤلفه أكثر من 1000 عِبارة كتبها المصريون على عرباتهم في الفترة ما بين 1967 إلى 1970. ونحن هنا لسنا بصدد عقد مقارنة بين كتابين، فلكل منهما منهجه، فضلاً عن اختلافهما في المادة التي اشتغل عليها كل من عويس وحسان. ومع ذلك لا ضير من القول إن كتاب "هِتاف الصامتين" يحظى بلغة منضبطة علمياً في ضوء خلفية أكاديمية لا تعطي أحكاماً مطلقة؛ إنما تناقش وتحلل وتصف. فيما جاء كتاب "هتاف المنسيين" بلغة مفعمة بحسٍ ساخر؛ جمعت بين العامية والفصحى، ولكن تغلب عليها "الآراء الشخصية". فكتاب يسري حسان ما هو إلا تحليل شخصي من جانبه بخلفيته كشاعر وكناقد، وأيضاً كصحافي ثقافي بخبرة كبيرة، لتلك الظاهرة. وبالتالي لا ينطوي الكتاب على دراسة متخصصة، سواء في علم الاجتماع أو النقد، وإنما قراءة عامة. وهو الأمر الذي يؤكده حسان نفسه بقوله: "... مع الأخذ في الاعتبار أن المهرجانات تحتاج إلى مزيد من الدراسات والأبحاث من المتخصصين علشان نعرف إحنا رايجين على فين بالظبط".
يقع كتاب "هتاف المنسيين" في 244 صفحة، بينها 165 خصصت لكلمات عدد كبير من "أغاني المهرجانات". أما الصفحات الخمسون الأولى فجاءت على شكل مقالات تناقش الكثير من القضايا المتصلة بالظاهرة نفسها. المقال الأول - إن صحَّ التعبير- جاء بعنوان "اعتراف"، ويعترف فيه الكاتب بأنه لم يكن متابعاً أو مهتماً بهذه الأغاني إلى أن سمع ابنه المراهق يردد بعض كلماتها. والمقال الثاني جاء بعنوان "أنا مين أنا مين"، ويتناول فيه حسان جانباً من نشأته في حي روض الفرج القاهري الشعبي، ويلفت فيه إلى أنه كما سمع خضرة محمد خضر والريس حِفني وغيرهما من أساطين الغناء الشعبي من أمثال محمد رشدي ومحمد عبدالمطلب وأحمد عدوية ورمضان البرنس والعجوز وبرين وعبدالنبي الرنان؛ لكن وسط هؤلاء كان يستمع لأم كلثوم وفيروز وعبدالوهاب ومحمد منير، بالإضافة إلى الكثير من الفرق الغنائية الأجنبية. بهذين المقالين بدا حسان وكأنه يريد أن يدفع عن نفسه تهمة افتراضية حول دوافع كتابته عن "المهرجانات"، ويعبر صراحة من أنه يخشى من أنه بكتابته تلك يصبح مثل الذين رقصوا على السلم، فلا يرضي قوله الطبقات العليا المثقفة التي ترى في المهرجانات إسفافاً وتدنياً، ولا يرضي الشعبيين المولعين بذلك النمط "الجديد" من الغناء. ويؤكد أيضاً أن خوضه في هذه القضية هو عبارة عن رحلة بحث في المجهول لا يعرف إلى أين ستقوده وأن هدفه هو أن يكتشف ويعرف ويحلل قدر خبرته، وألا يصدر أحكاماً. وهو بالفعل بما جمعه من "مهرجانات" (تسمى الأغنية الواحدة من هذا النمط مهرجاناً) استطاع أن يحلل بعضها ويكشف مزاياها وعيوبها، إلا أنه لم يلتزم بشرطه الأخير ألا وهو ألا يصدر أحكاماً. ففي الكتاب الكثير من أحكام القيمة. ويلاحظ في الكثير من صفحات هذا الكتاب أن يسري حسان، إذا خاضَ في قضية ما لها علاقة بالنقد الموسيقي أو علم الاجتماع، يقول إنه ليس متخصصاً؛ لا في هذا ولا في ذاك، كي يخرج نفسه ربما من دائرة المساءلة، ويعطي لنفسه أريحية في العرض والتناول.
اثر الثورة
المقال الثالث جاء بعنوان "النشأة" ويرصد تسعة أسباب لظاهرة المهرجانات، وبعدها يورد مقالاً نُشر بواسطة موقع إحدى أكثر الفرق نجاحاً في هذا اللون؛ في عام 2017. ولا أعرف لماذا اختار يسري حسان هذا العام بالتحديد من دون بقية الأعوام، وما الخصيصة التي تمنحه الأفضلية على بقية السنوات التي سبقته أو تلته. والأسباب التسعة التي يرصدها الكاتب لانتشار المهرجانات هي كالتالي: الرغبة في التمرد، المجتمع المصري المأزوم والمهزوم الذي يشبه واقعُه ما كان بعد نكسة 67، شباب العشوائيات وقلة التعليم لديهم وانتشار البطالة بينهم، سهولة صناعة هذه الأغاني، ثورة التكنولوجيا، انتشار وسائل المواصلات، الأفلام والمسلسلات، وجود فئتين من صناع الأفراح الشعبية وهم "النبطشي" والـ"دي جي"، ودخولهم هذا المجال، هذه المهرجانات عبَّرت عن مشاكل الناس الحقيقية. وهذه الأسباب بحاجة إلى وقفة، وبما أنه بعد أن سردها، ترك حسان مساحة سطرين لكل قارئ ليضع أسبابه لانتشار هذه الظاهرة، فيمكنني تلخيص أسباب نشأة وانتشار هذه الظاهرة في ما يلي: تكلُس أغاني النخبة والأغاني الشبابية وبُعدها عن مناقشة القضايا والهموم التي تعاني منها الطبقات الفقيرة والمهمَّشة، وعددهم يقترب من ثلث تعداد السكان. ففي هذا الوضع بدت الأغاني التقليدية وكأن منتجيها يعيشون في برج عاجي، لا تعنيهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن هذه البيئة المهمَّشة خرج هذا الفن، وكانت بدايته على يد شاب يدعى "فيجو" من حي "مدينة السلام" في شرق القاهرة، بمهرجانه الذي حمل اسم الحي نفسه ولاقى رواجاً كبيرا.
ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أسهمت في رفع مستوى التعبير وشعور الكثير من فئات الشعب بالحرية. كما أن هذه المهرجانات واكبت أحداث الثورة ورفعت شعاراتها، فيقول "وزة" أحد فناني هذا اللون إنه قبل الثورة لم يكن لهم صوت يعبر عنهم فعبرت عنهم المهرجانات. تلك المواكبة جعلت للمهرجانات قبولاً وسط التجمعات الشبابية التي شاركت في الثورة. كما أن الاضطرابات السياسية التي تلت الثورة قابلتها حالة تمرد في عالم هذا "الفن الجديد"، على الفنون القديمة.
الثورة الثالثة
وأبرز الأسباب وأهمها على الإطلاق انتشار الإنترنت، فهي ثورة ثالثة، فإذا اعتبرنا السبب الأول لظهور المهرجانات هو ثورة على الوضع الاقتصادي المتردي في مصر، والسبب الثاني ثورة سياسية، فالإنترنت هي ثورة تكنولوجية، استغلها الشباب في إبداع هذا اللون الفني، فلم يعودوا بحاجة إلى آلات موسيقية مكلفة مادياً وبشرياً، وبات كل ما عليهم هو تحميل البرامج الموسيقية الجاهزة الموجودة على الشبكة العنكبوتية لأغاني "الراب" وأغاني "هوب هوب". ثم يأتي إبداعهم بإضافة اللمسة الشرقية مراعاةً لأذواق جمهورهم. هؤلاء الشباب حاولوا في البدء غناء "الراب"، لكن ذلك لم يلق قبولاً، فتسمع في الأغاني الأولى لهذا اللون كلمة "الرابر أوكا"... إلخ. ويلاحظ هنا أن هؤلاء المطحونين استطاعوا أن يستغلوا التكنولوجيا الحديثة، ويطوعوها لما يتوافق مع الذوق الشعبي. وبالتالي لم ينزلقوا إلى تقليد أعمى، لأن التقليد المباشر لأغاني الراب والهيب هوب كما ذكرنا لم يلق قبولاً، فعمدوا إلى وضع بصمتهم، وهو الأمر الذي تفشل فيه النخبة العربية حين تنقل أفكاراً من الغرب من دون مراعاة خصوصية بلدانها، ما يؤدي إلى رفضها من الناس جملة وتفصيلاً. ويبقى سبب يرتبط بالتنفيس عن مشاعر الكبت والخروج من حالة الإحباط بسبب العوامل الاقتصادية بموسيقى صاخبة يطلقون على إيقاعها طاقاتهم المكبوتة. فهذا اللون باعتراف الكثير من الشباب قادر على أن يحول حالتهم المزاجية.
في المقال الرابع (هما مين) ينشر الكاتب حوارات أجرتها جريدة "روز اليوسف" في نوفمبر(تشرين الثاني) 2012 مع مجموعة من مغنّي المهرجانات، ويقول إنه اختارها لجرأة الصحافي الذي أجراها بالتفاته إلى هذه الظاهرة مبكراً، بالإضافة إلى أن المغنين الذي حاورهم مازالوا يحققون نجاحاً حتى الآن.وفي المقال الخامس؛ "السيد الرئيس"، يقدم يسري حسان نقداً لاذعاً لنقيب الموسيقيين المصريين المطرب هاني شاكر؛ بسبب "تعاليه وسخريته وطبقيته"، في التعامل مع مغنّي المهرجانات. وفي المقال الخامس يسعى حسان إلى استخراج أهم ما يميز هذه المهرجانات مثل عدم وجود نمط واحد لها، عدم التزامها بشروط "الغنوة المتكاملة"، عدم وجود موزع، وعدم الالتزام في الكلمات لا بقافية أو عروض. وفي هذا المقال يقدم يسري حسان النصح لمؤلفي المهرجانات بالاستماع إلى الأغاني القديمة. ويختتم حسان كتابه بمقالين (إيه بقي، وقبل ما نروَّح) وهو يستخلص فيه عصارة رحلته مع المهرجانات التي جمعها ويؤكد أن المهرجانات "رضي من رضي وأبى من أبى" حققت ذيوعاً لا يستطيع أن ينكره أحد، كما يقدم النصح للشباب الذين يغنون هذا اللون بأن عليهم ألا ينفصلوا عن أهاليهم في المناطق الشعبية، فهم الذين صنعوهم.
وفي النهاية فإن أكبر ما يحسب ليسري حسان في هذا الصدد هو كونه صاحب أول كتاب عن "المهرجانات الشعبية" التي ما زال الكثير من الأكاديميين يتعالون عليها، على الرغم من أهمية وضع دراسات عنها، سواء من جانب أساتذة الأدب الشعبي وعلم الاجتماع والموسيقى وحتى الفلسفة تتناول بعمق أسباب ظهورها والإيجابيات والسلبيات المرتبطة بها.