لكلّ مَن لا يزال يؤمن بقيمة العمل الخيريّ وقدرته على تغيير معالم المجتمعات وواقعها إلى الأفضل، هناك الكثير لإنجازه، بمعنى آخر، هناك تحديات كبيرة تستدعي اتّخاذ خطواتٍ سريعة ونماذج جديدة تستلزم الوصول إلى حلولٍ ملائمة على مستويات مختلفة، بدءاً من التّغيير المناخي وصولاً إلى أزمة اللّجوء المتنامية.
ومع هذا كلّه، ما زالت أيمي غولدمان، فاعلة خير والرّئيسة التّنفيذية لـ"مؤسسة جيرالد وهنريتا راونهورست" (GHR) ورئيسة مجلس إدارتها، تؤمن إيماناً قوياً بأنّ الابتكار الممزوج بالقليل من التّفاؤل والتّضامن قد يُسهم على الأقلّ في إيجاد حلولٍ ناجعة لبعض أكبر القضايا الاجتماعية التي تُواجه عالمنا اليوم.
لكن برأيها، "ثمة مشكلة شاملة ومشتركة بين مجالاتٍ عدّة نعمل عليها؛ وهذه المشكلة هي غياب ثقافة التّضامن العالميّ وعدم إدراكنا حقيقة كوننا أسرة إنسانية واحدة. فالتّفاؤل عاملٌ أساسي لإنجاز المشاريع الخيرية بصورةٍ بناءة. ونحن إذا استمرّينا لغاية الآن في إعادة تصوّر ما هو ممكن ولم نستسلم للوضع الرّاهن، فذلك بفضل شركاء مؤسستنا القيّمين وفريق عملنا الإحترافيّ"، وفق ما أفادت به غولدمان لـ"اندبندنت".
هذا صحيح. منذ العام 1965 والمؤسسة الخيرية التي أنشاها المستثمران العقاريان جيرالد وهنريتا راونهورست والتي تحمل اسميهما، تُسخّر نفسها لـ"خدمة النّاس وإمكاناتهم اللامحدودة على فعل الخير". وفي الوقت الحاضر، يُمكن القول إنّها واحدة من عشرات الجمعيات الخاصة التي تتّخذ من الولايات المتّحدة مقراً لها وتحوز على أصول بقيمة مليار دولار أميركي وتُساهم في الأعمال العالميّة في مختلف المجالات، نذكر من بينها: التّعليم والأبحاث الطّبية في أمراض عدّة، بما فيها مرض ألزهايمر.
ولمّا استلمت غولدمان مؤسسة والديها عام 2009، طوّرتها وحوّلتها من مجرّد جمعية خيرية تضمّ فريق عمل من خمسة أشخاص وتحوز أصول بقيمة 275 مليون دولار أميركي (211 مليون جنيه إسترليني) إلى جمعيّة من 30 موظّفاً وأصول بقيمة 1.1 مليار دولار أميركي هذا العام. وعلى الرّغم من هذا التّوسّع المشهود، تقرّ غولدمان أنّ تولّيها زمام المؤسسة لم يكن جزءاً من خطّتها المهنية، واصفةً إياه بالـ"واقعة السّعيدة".
فـ"بينما كنتُ أشبّ عن الطّوق، كانت المؤسسة لا تزال يافعة نسبياً وكانت أقرب إلى المصلحة الشخصية لوالديّ. لم اعتبرها يوماً خياراً مهنيّاً. آنذاك، كنتُ شديدة الاهتمام والولع بالعالم والسّفر. فكّرتُ بامتهان الصّحافة أو أي وظيفة أخرى تُتيح لي الاندماج في العالم الرّحب واستيعابه بشكلٍ أفضل"، على حدّ تعبير غولدمان.
وبعد حيازتها على شهادة البكالوريوس في السّلكين الدّبلوماسي والقنصلي من "جامعة جورج تاون" (Georgetown University) وشهادة الماجستير في القانون الدّولي والدّيبلوماسية من "جامعة تافتس" (Tufts University) وشهادة ماجيستر أخرى في العلوم السّياسية من "جامعة كاليفورنيا" (University of California) في مدينة بيركيلي، قرّرت غلودمان العمل في التّجارة والاستثمار. "المضحك بشأن العمل الخيري أنّه يخلو من المسارات الوظيفيّة التي يُمكن تتبّعها ولا مجال فيه للحصول على شهادة. لكن ما إن دُعيت لأتولّى مسؤولياتي في المؤسسة منذ 10 أعوام، اكتشفتُ أنّ المطلوب يتلاءم مع باكورة تجاربي العمليّة وشهاداتي العلميّة. فما كان منّي إلا أن استجمعتُ كلّ ما أعرفه وكلّ ما أنجزته في حياتي لأكون على أهبّة الاستعداد للمرحلة القادمة"، تروي غولدمان.
اليوم وبعد مرور أكثر من 50 عاماً على تأسيسها، تبدو "جي اتش ار" انعكاساً واضحاً لروح المبادرة التي تميّز بها والدا غولدمان والنّجاح الذي حقّقته في تطوير المؤسسة وتوسيع ثقافتها بعد انتقال الإدارة إليها من مؤسسيها الأصليين. وعلى حدّ قول غولدمان، "أخذنا الكثير من القرارات بشأن الإمكانيات التي ينبغي إضافتها إلى المؤسسة. وكانت النّتيجة: المزيد من البرامج والمزيد من الخبرات في المجالات التي قررنا العمل عليها".
وأضافت: أَشركنا المؤسسة في دفعةٍ استراتيجية لخلق مجالات تركيز محدّدة – كالتعليم والصّحة والتّنمية العالمية. "فنحن نشعر أنّ التّركيز على هذه المحاور يُتيح لنا ترك بصماتٍ مهمة على خارطة العمل الخيري وإرساء علاقات شراكة مميّزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"بالنّسبة إلينا، الأمور الآن أكثر اتّساقاً بكثير"، والمؤسسة أكثر اعتماداً على مفهوم "المشاريع الخيرية القائمة على البناء فالتّصميم" المستوحى من إرث جيرالد راونهورست ونهج أعماله التّجارية المبتكر، منوّهةً بالدّور الرائد الذي لعبته شركة "أوبوس غروب" (Opus Group) العقارية المملوكة له في تطبيق نموذج البناء فالتصميم على المشاريع التنموية، من خلال فرق عمل متعددة المهام وقادرة على تسليم مشاريع معقّدة بشكلٍ أسرع وبنتائج أكثر فعالية.
"لقد استمتعنا جداً في تطبيق مبادئ التّصميم فالبناء على المشاريع الخيرية. وأعتقد أنه إطار عمل جيد جداً، ولا شك أنه ساعدنا في العثور على شركاء مفيدين لنا في أنحاء القطاع الخاص وفي القطاع الحكومي كذلك"، قالت غولدمان هذا الكلام لتستطرد بعدها إلى تعريف مفهوم التّصميم فالبناء: "إنّه العمل الدؤوب والمستمرّ على تكييف أحد المشاريع وتحسينه أثناء العمل عليه، مع الأخذ بعين الإعتبار آراء العملاء – أيّ الشّركاء العاملين على الأرض والأشخاص المستهدفين. التّصميم فالبناء هو بالمختصر المفيد، الاستعداد الإيجابي للمخاطرة المحسوبة في سبيل تحقيق أهدافٍ كبرى".
وفي العام 2017، أطلقت "جي اتش ار" أكثر مشاريعها طموحاً لغاية اليوم، ألا وهو "تحدّي بريدج بيلدر" (BridgeBuilder Challenge) الذي هو عبارة عن منافسة مفتوحة لإيجاد أفضل الأفكار لكيفية معالجة القضايا العالمية الطّارئة بطرقٍ جذرية. وعلى مدى ثلاث سنوات، جمعت التّحديات المتعاقبة أكثر من ألف و300 فكرة من مبتكرين اجتماعيين من 185 دولة. وبالتّعاون مع منصة الابتكار "أوبنلديو" (Openldeo)، نجحت "بريدج بيلدر" في تخصيص مبلغ مليون دولار في السّنة الواحدة لخمسة أفكار رابحة.
ونذكر من بين الرّابحين السّابقين على سبيل المثال لا الحصر: "بيس دايركت" (Peace Direct) التي اقترحت استخدام التّقنيات الأخلاقية للتنقيب عن الذّهب نهجاً لإحقاق السّلام وحماية البيئة في جمهورية كونغو الدّيمقراطية؛ و"بيوكاربون إنجينيرينغ" (BioCarbon Engineering) (المعروفة حالياً بـ"ديندرا سيستمز" (Dendra Systems) التي تستخدم الطّائرات الموجّهة عن بعد لزراعة الأشجار والمساعدة في استعادة غابات المانغروف وموارد الرّزق في ميانمار السّاحلية.
وفي العام 2019، تمحورت المنافسة حول "الأشخاص المرتحلين" وكانت الغاية منها مساعدة المهاجرين واللاجئين في وقتٍ يتجاوز فيه عدد النّازحين حول العالم الـ70.2 مليون نسمة. ففازت بها مجموعة من المشاريع ومن بينها: شركة "نتكلّم" للترجمة التي تخضع لإدارة لاجئين ويعمل فيها موظفون لاجئون.
"لقد أطلقنا "تحدّي بريدج بيلدر" ليكون وسيلتنا المبدعة للعثور على مبتكرين من حول العالم وتوسيع نطاق نشاطاتنا الخيرية التّقليدية"، قالت غولدمان، "وبالنّسبة إلى التّحدي الثالث، فقد تطرّق بشكلٍ خاص لقضايا الهجرة واللاجئين والمرتحلين؛ ونحن في غاية السّرور لأننا تمكنّا بواسطة منصّتنا من رفع صوت هذه الفئة من النّاس".
وفي العام 2019 أيضاً، أمّنت "مؤسسة جيرالد وهنريتا راونهورست" منحاً بقيمة إجمالية وصلت إلى 44 مليون دولار أميركي (33.7 مليون جنيه إسترليني) لـ139 منظمة شريكة. ويظهر أنّ غولدمان تنوي الاستمرار في العمل على المشاريع والشركات الجريئة التي التزمت بها للمستقبل. "في الأعمال الخيرية، غالباً ما يكون هناك حلّ سريع أو نقلة من حلّ إلى آخر أو هدف براق نصبو إليه. لكن من وجهة نظرنا ومن تجربتنا الخاصة، لحلّ القضايا الكبرى، لا بدّ أن نكون جزءاً منها ونصبّ كل تركيزنا عليها لفترةٍ طويلة".
وبصفتها متعلّمة سريعة تهوى التّحديات، تعترف غولدمان أنّها تمضي معظم أوقات فراغها في قراءة كتب تتعلّق بعملها، وذلك من أجل تعميق معرفتها بعلوم الاقتصاد والتنمية العالمية. ولدى سؤالها عن أولادها الذين بلغوا سن الـ23 و20 و12 وينتمون إلى "مختلف الفئات العمرية"، أجابت غولدمان أنها لا تودّ حثّهم على الانخراط في العمل العائلي رغم شغفها الكبير به.
"سيكون القرار بيد مَن يبغي بينهم أن يخلفني في رئاسة مجلس المؤسسة ورئاستها التنفيذية. أعتقد أنه من المهم جداً أن يستكشف كل واحدٍ فيهم خياراته المهنية. أنا من جهتي أحاول أن أشاركهم الأشخاص الاستثنائيين الذين ألتقي بهم في عملي – هؤلاء بنظري هم أبطال يوميين وأصحاب قصص رائعة. ولو تمكّنتُ بطريقتي هذه من إلهامهم وحثّهم على إحاطة أنفسهم بأناس جيّدين والتّفكير في كيفية المساهمة إيجاباً في العالم – وإن لم تكن هذه المساهمة على قدر كبير من الأهمية – فسأكون قد أتممتُ مهمتي على أكمل وجه"، ختمت غولدمان.
© The Independent