لا يجدي الهلع في مواجهة فيروس "كورونا المستجد"، بل يزيد مشكلته تعقيداً. ليس بعيداً عن الأذهان تلك القصة القديمة عن لقاء بين الطاعون والحرب على باب إحدى العواصم العربية القديمة. إذ سأل الحربُ الطاعونَ عن عدد من فتك بهم، فأجاب الطاعون أنه قتل الربع أما البقية فقد فتك بهم الهلع والذعر.
في المقابل، لا يجدي التراخي والكسل، والركون إلى درع الإنكار النفسي [كم تحدث سيغموند فرويد وأمثاله عنه]، والاطمئنان الكاذب إلى أن الأمور تسير في مجراها الطبيعي. الأرجح أن ذلك يشكّل تفكير الهروب من مواجهة الواقع، والرغبة في عدم تحمل المسؤولية.
أين موقعك ضمن مروحة الطيف الممتد بين الهلع المأساوي والإنكار الكسول؟ فكّر ملياً قبل أن تجيب. لا يكفي أن تحدق بالأرقام وجداول الدول والإصابات. ماذا لو سمعت رأياً مختلفاً عن مجريات وباء كورونا الذي يتجه ليكون جائحة وبائية، بمعنى شموله أقطار العالم وأقاليمه الجغرافية الأساسية؟
لنبدأ بشيء من الهدوء الصارم. نعم. قد يكون كل واحد منا أكثر عرضة للإصابة بكورونا مما يبدو على سطح الأرقام والمعطيات. وفي الأقل، يشكّل ذلك خلاصة مقال مطوّل خصصته مجلة "آتلانتك" الأميركية الرصينة لرصد ملامح انتشار كورونا. ويستعيد المقال مسار العدوى الأولى لـ"أنفلونزا الطيور" في العام 1997 التي مثّلت مرّة أولى في انتقال ذلك الفيروس من الطيور [عرف العلماء أنه يصيبها قبل عقدين من ذلك الزمن] إلى بني البشر.
في تلك العدوى التي اشتُهِرَتْ أيضاً بمصطلح "أتش5 أن1" H5N1، تأخر اكتشاف الخصائص المميزة للفيروس الذي يندرج ضمن عائلة فيروسات الأنفلونزا قرابة شهر كامل انقضى بين إصابة صبي في هونغ كونغ بذلك الفيروس وبين تشخيصه في "مراكز تقصي الأمراض" بولاية آتلانتا الأميركية. وتبيّن أن ما أصاب البشر فيروساً فيه "انحراف" بسيط عن التراكيب المعروفة لفيروس الأنفلونزا التقليدي. وتذكيراً، تضرب الأنفلونزا البشر سنوياً بصورة تقليدية. لكن من ينسَ أن أحد تراكيبها تضمن "انحرافاً" هيّناً عن التراكيب التقليدية في عام 1917، فأطلق جائحة شرسة عرفت باسم "الأنفلونزا الإسبانية"، وقضت على ملايين البشر، بل ربما كانت ضربة الوباء المفردة الأسوأ في التاريخ المعروف للأوبئة.
في المقابل، في عام 1997، سارت الأمور بشكل مختلف. وبفضل تخلص سريع من ملايين الدجاج، لم يقضِ سوى 6 ممن أصابهم "أتش5 أن1".
بقول آخر، بفضل تآزر عالمي سريع في مواجهة "أنفلونزا الطيور"، حوصرت العدوى في مهدها تقريباً. ثمة عامل آخر يتمثّل في أن "أتش5 أن1" شكّل فيروساً ثقيل الوطأة. إذ يسبب مرضاً شديداً. ووصلت نسبة الوفيات بين مُصابيه إلى 60 في المئة [لكنها لا تتعدى الـ2.5 في المئة بالنسبة لكورونا]. وتجددت موجات العدوى بـ"أنفلونزا الطيور"، لكنها لم تقتل جائحتها الشهيرة في 2003، سوى 455 شخصاً. وبالمقارنة، لا تقضي الأنفلونزا العادية إلا على 0.1 في المئة ممن تصيبهم، ما يجعلها "ناعمة" الوطأة نسبياً، لكنها تصيب أعداداً كبيرة من البشر سنوياً فتتسبب "بنعومتها" في مقتل بضع مئات الآلاف ممن تضربهم سنوياً!
لماذا يظهر كأنما الفيروس الأكثر "نعومة" يكون أشد قتلاً؟ هل يرجع ذلك لأن الأخف وطأة يكون أيضاً أسرع انتشاراً؟
ليس تماماً. ثمة بُعد آخر، وفق الـ"آتلانتك" نفسها. إذ إن الفيروس "القاسي" يُحدث مرضاً شديداً، فتسهل عملية تمييز المُصاب به عن ذلك الذي يعاني فيروس أنفلونزا عادياً أو زكاماً عابراً. وكذلك تفرض قوة المرض سرعة نقل المريض إلى المستشفى لتلقي العلاج. وتسهم تلك الأمور في سرعة فصل المصاب عمن يحيطون به، وكذلك تسرّع عزله والتعامل الطبي المتخصص معه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لنُضِف بُعداً آخر إلى تلك الصورة، بالاستفادة من ضربتين شهيرتين لفيروسي أنفلونزا غير عاديين، تجسّدا في "سارس" SARS و"ميرس" MERS [الاسم المختصر لـ"حمى الشرق الأوسط التنفسية"]. وقد انتقل كلاهما من الحيوانات إلى البشر. وتسبب كلاهما في إصابات غالباً ما كانت شديدة القوّة. وكذلك ترافق كلاهما مع معدلات وفيات مرتفعة في صفوف المُصابين بهما. وبالنتيجة، لم يحصد كل منهما سوى قرابة ألف وفاة. إنها الصورة نفسها لفيروس من نوع الأنفلونزا، تتضمن تركيبته "انحرافاً" عن الأنفلونزا التقليدية بسبب المكوث في عوالم الحيوان قبل الانتقال إلى البشر، إضافة إلى التسبب في مرض ثقيل الوطأة، يسهم في سرعة ظهور الأعراض وتمييز المُصاب عن الطبيعي وعزله عنه، مع الاضطرار لنقل المُصاب إلى المستشفى، وسرعة وصوله إلى أيدي الرعاية الصحية المركزة.
ويبدو فيروس كورونا [يسمّى تقنياً "كوفيد 19" COVID-19] مقلقاً، ضمن تلك الصورة، لأن ميزاته تبدو متخالطة، بل تجمع سرعة انتشار الفيروس "الناعم" مع شدة الفتك التي ترافق الفيروس "الثقيل". وقد جاء "كوفيد 19" من عالم الحيوان، وقتل حتى الآن ما يزيد على ما فتك به "سارس" و"ميرس" معاً، لكن من الصعب وصفه بأنه مميت أو قاتل، إذا قارنا نسبة الوفيات مع أعداد الإصابات. وكذلك يتسبب في أنفلونزا قوية، لكنها ليست بعيدة عن الأنفلونزا التقليدية، ولا قريبة من الأنفلونزا الشديدة التي ترافق "سارس" أو "ميرس"!
ويرد في مقال "آتلانتك" أن كاتبه تحدث مرّتين إلى البروفيسور مارك ليبسيتش، المتخصص في علم الأوبئة في جامعة هارفرد الأميركية. وفي المرتين كليهما، تردد البروفيسور حيال المعطيات المتوافرة عن "كوفيد 19". وفي النهاية، حسم أمره بأنه يميل إلى الاعتقاد بأن "كورونا المستجد" قد يكون صعب المراس، ومقاوماً لمحاولات الاحتواء!
والأرجح أيضاً أن تحوّل "كوفيد 19" جائحة وبائية ربما يكون أقرب مما تشي به الأخبار عنه. وعلى الرغم من جهود خرافية بذلتها الصين في احتوائه وصلت إلى حد "عزل" مناطق ومدن وأقاليم، إلا أنه انتشر بسرعة ليضرب 24 بلداً. [ربما، عندما تقرأ المقال، يكون العدد ارتفع. ربما تكون الولايات المتحدة على القائمة أيضاً].
ويتوقّع البروفيسور ليبسيتش أيضاً أن المُصابين بـ"كوفيد 19" سيمثلون ما يتراوح بين 40 في المئة و70 في المئة من سكان الكرة الأرضية، بمعنى أنها قد تصل إلى حفنة من... مليارات البشر. في المقابل، يرجح ليبسيتش نفسه أن تكون معظم تلك الإصابات خفيفة أيضاً.
ووفق "آتلانتك"، ليس البروفيسور ليبسيتش وحيداً في ذلك الاستنتاج. وثمة معطيات تشير إلى ظهور شبه توافق بين المتخصصين في الأوبئة الفيروسية على أن "كوفيد 19" سيُضحي مرضاً فيروسياً "مقيماً"، بمعنى أن يصير شبيهاً بالأنفلونزا التقليدية والرشح والزكام. ومع كل شتاء، ستتجدد الإصابات به، تماماً مثلما يحصل مع الفيروسات الشتوية "المقيمة" التي تسببها 4 أنواع من عائلة فيروس "آتش5 آن1" وقد يصبح "كورونا المستجد" خامسها، فيصبح فصل الشتاء موسماً للزكام والرشح والأنفلونزا و... "كوفيد 19".
ويزيد في الأدلة على ذلك الاتجاه أن عدد المُصابين به ليس محدداً بدقة. ويوم الأحد الماضي، أوردت "منظمة الصحة العالمية" أن الولايات المتحدة فيها 35 إصابة مؤكدة بـ"كوفيد 19"، لكن البروفيسور يعتقد أن العدد الفعلي ربما يتراوح حاضراً بين 200 و300 إصابة.
وكخلاصة، سيعتمد الوضع النهائي لانتشار فيروس "كورونا المستجد" على نسبة انتقاله من المصابين بأعراض خفيفة، أو من هم خلوٌ من الأعراض، إلى الجمهور العام. حتى الآن، ليس من توافق علمي على ذلك الملمح من الوباء، لكن... من يدري؟