الصرافون هم المتحكمون اليوم بالسوق اللبنانية. فمع ارتفاع أسعار صرف الليرة أمام الدولار بنسبة لامست 75 في المئة، ارتفعت أسعار كل السلع في الأسواق لتزيد معاناة المواطن اللبناني الرازح تحت بطالة مرتفعة وصلت إلى 50 في المئة، ورواتب اقتطع نصفها رب العمل وقضى التضخم على النصف الآخر.
تعميم مصرف لبنان
ومع وصول سعر صرف الدولار إلى مستويات تاريخية لامست الـ2700 ليرة لبنانية لكل دولار، فاجأ اليوم مصرف لبنان السوق والصرافين بتعميم حدد بموجبه نطاق سعري لتداول العملات الأجنبية.
وبحسب تعميم مصرف لبنان لمؤسسات الصيارفة بشأن تنظيم المهنة، طلب المركزي التقيد استثنائياً بحد أقصى لسعر شراء العملات الأجنبية مقابل الليرة اللبنانية، لا يتعدى نسبة الـ30 في المئة من السعر الذي يحدده مصرف لبنان في تعامله مع المصارف.
كما طلب الامتناع عن إجراء أي عملية صرف لا تراعي النسبة المحددة في المادة المعلنة.
كذلك طلب عدم اعتماد هوامش بين سعر البيع وسعر الشراء للعملات الأجنبية يخرج عن العادات المألوفة وعدم التوقف عن القيام بعملية الصرافة بأنواعها كافة، على أن يُعمل بهذا القرار لمدة ستة أشهر من تاريخ صدوره.
تعميم دفع بمعظم الصرافين إلى الإقفال بظل الفارق الكبير بين السعر الذي حدده المركزي والذي يتحرك بين 1970 ليرة و2000 ليرة للدولار والسعر الفعلي الذي تحدده السوق بحسب العرض والطلب، كما يشرح الصرافون عند 2650 و2700 ليرة.
سوق احتكارية ومدعومة بامتياز
"خمسة صيارفة يُسيطرون على السوق، وكل بقية الصيارفة يشترون العملات من هؤلاء الخمسة"، يكشف الأستاذ الجامعي البروفيسور جاسم عجاقة لـ"اندبندنت عربية". فسوق الصيارفة في لبنان ليست سوقاً تخضع للمعايير المُتعارف عليها في الأسواق العالمية. فمثلاً لا يوجد مركزية أسعار، أي أن السعر الذي تُباع عليه الدولارات ليس سعراً موحداً بين كل الصيارفة. أيضاً لا توجد فعّالية (Efficiency) في هذه السوق في ظل تحكم قلة من الصيارفة في السوق حالياً، وما زاد من قدرة هؤلاء واقع الإجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانية لمواكبة أزمة شح الدولار والأزمة المالية العامة والتشديد الأميركي على حركة الدولارات في لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجدير ذكره، أن عدد الصيارفة المرخصين في لبنان هو بحدود الـ 300 صيرفي، إضافة إلى تقديرات بوجود أكثر من 600 صيرفي غير مرخصين. وقد أحالت نقابة الصيارفة في لبنان إلى المعنيين لائحة بأسماء وعنوانين وأرقام هواتف صيارفة مخالفين، لكن لم تتحرّك السلطات المعنية لمعاقبتهم لأسباب معروفة. فاستمرار البؤر الحزبية والمناطق العصية على القانون حتى بعد انتهاء الحرب اللبنانية، أمّن لهؤلاء حرية التحكم بسعر الصرف من دون محاسبة. ولعل ما يزيد من المشكلة واقع أن الخمسة الأكبر من الصرافين مدعومون كل من حزب أو من أحزاب عدة، بحسب ما يؤمنه الصراف من مكاسب للجالسين في مراكز القرار.
كما ساهم بحسب البروفيسور عجاقة في ارتفاع سعر الدولار في الفترة الأخيرة، الهلع الذي يواكب استحقاق 9 مارس (آذار) من سندات اليوروبوندز، والإجراءات التي ستتخذها الحكومة لمواكبة المرحلة المقبلة. وبغياب رقابة فعّالة يستفحل بعض الصيارفة ببيع الدولار بأسعار غير عقلانية، أصبحت تعكس حالة هلع أكثر منها حالة طلب لعمليات اقتصادية.
إمكانيات الملاحقة القانونية متاحة
ويقول نقيب الصيارفة إن "سعر الدولار الأميركي لدى الصيارفة يُحدّده العرض والطلب، في حين يتهم الخبراء الصيارفة بالتلاعب بأسعار الدولار نظراً لاحتكار قلّة قليلة لهذه السوق". لكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن التطبيقات الموجودة على المتاجر الإلكترونية لمعرفة أسعار الدولار لدى الصيارفة، لا تعكس واقع الأرض، بحكم أن لا مركزية في أسعار العملات لدى الصيارفة، وهذا يفرض وجود تلاعب بالرأي العام اللبناني، الذي يتأثر بشكل كبير بهذه التطبيقات. من هنا أهمية تدخل وزارة الاقتصاد والتجارة لملاحقة أصحاب هذه التطبيقات لمعرفة مصدر الأسعار هذه.
والقانون اللبناني أعطى القضاء الحقّ بملاحقة كل من يبث إشاعات على النقد الوطني عملاً بالمادة 319 من قانون العقوبات، وهذا ينطبق بالتحديد على التطبيقات على الهواتف الذكية.
اختبار الحكومة الأول
التوقعات المستقبلية بعد صدور قرار حاكم مصرف لبنان الذي يُحدد سعر الشراء بـ 30 في المئة فوق السعر الرسمي كحدّ أقصى، وهامش ربح بحدود الـ30 ليرة للدولار الواحد، سيُعطي مفعوله ولو للفترة القريبة المقبلة، خصوصاً أن هناك نية واضحة لدى السلطات النقدية بلجم هذا الفلتان، بالتالي مطلوب من الأجهزة الرقابية والقضاء التعاون لقمع المخالفات تحت طائلة خلق فوضى لن يكون من السهل السيطرة عليها لاحقاً.
ومن هنا يشكل تنظيم عمل الصرافين، أول اختبار حقيقي للحكومة اللبنانية الجديدة التي ارتدت ثوب الاختصاص ووُصفت بحكومة التكنوقراط. فمواجهة المحميات السياسية والمالية ليس بالعمل السهل، ولكن متابعة الرأي العام اللبناني الدقيق لعمل الحكومة قد يضعها وداعميها ضمن خيارات قليلة.
فهل تكسب الحكومة أول معركة شعبية بعد تصريحات مستهجنة من رئيسها بعدم قدرة الدولة على حماية مواطنيها؟