داخل المعارض الفنية المعتادة، يتجول الزائرون بهدوء لتأمل اللوحات المعروضة وفلسفة عناصرها، لكن عند الفنان الفلسطيني سليمان منصور (72 سنة)، الزائرون لمعارضه الفنية يتأملون ويتحسسون ويقتربون لشم لوحاته كمن يحلل الألغاز، فمنصور ليس كغيره من الفنانين التشكيليين المعاصرين، فهو كرّس خامات من البيئة الفلسطينية مثل الطين، والخشب، والفخار، والحناء، والخيش لرسم لوحاته.
في عام 1987 ورداً على أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أطلق منصور مع زملائه الفنانين آنذاك مبادرة لمقاطعة الأدوات والمواد الفنية المستوردة من إسرائيل، واختيارهم العمل باستخدام مواد طبيعية، مثل القهوة والحناء والطين، وشكلت مجموعة أعمالهم آنذاك، مرحلة مهمة من تاريخ الفن الفلسطيني.
الانتفاضة الفلسطينية
ويتحدث منصور إلى "اندبندنت عربية" عن الفن التشكيلي الفلسطيني في تلك الفترة، إذ "كان الأكثر تعبيراً عن الهم والألم اللذين يكابدهما الفلسطينيون مع الانتفاضة، إلى جانب الفنون والآداب الأخرى من شعر ورواية ومسرح، وكذلك الأغنية الوطنية الفلسطينية، وفي ظل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في تلك الفترة، قررنا كفنانين مقاطعة مواد التلوين، واعتمدنا في أعمالنا الفنية على مواد خام من منتجات الأرض الفلسطينية، واتجهت أنا نحو الطين الذي شكّل الكثير من أعمالي ولا يزال، في حين اتجه آخرون إلى الجلود والحناء والخشب، وانسجمنا كفنانين مع رسالة الانتفاضة الفلسطينية ومتطلبات مقاطعة منتجات إسرائيل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لوحات برائحة البهارات
ويضيف منصور "لم أقف في لوحاتي عند استخدام الطين فحسب، بل قمت باستخدام التبن والبهارات كالكمون، والسماق، والكركم، فعندما تكون اللوحة بكل تلك العناصر الطبيعية، أشعر كأنني أضع كل فلسطين وتراثها وروايتها وهموم شعبها في لوحة واحدة، وكثيراً ما رأيت الحاضرين لمعارضي يقومون بشمّ اللوحات التي تعبق برائحة السماق الشهير في الأكلات الشعبية الفلسطينية، وتركيزي كان على الطين لأنني أعثر عليه من حجر الحور الذي يتشكل في عمق التربة الفلسطينية، وهذا النوع من الطين يتحمل المتغيرات البيئية الصعبة كالحرارة والمطر والبرد كما المواطن الفلسطيني بالضبط، الذي يتحمل كل الصعاب والمآسي والجراح، إذ إن الشقوق والتشوهات التي تظهر في تجفيف الطين، توحي بمرور الوقت وزوال ما هو مادي".
أول رابطة فنية
ولد الفنان الفلسطيني سليمان منصور في بلدة بيرزيت (وسط الضفة الغربية) عام1947 وساهم منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في تشكيل الهوية الفعلية للفن التشكيلي الفلسطيني، فبعد معرض فني في القدس اكتشف منصور أن حوالى 20 فناناً تشكيلياً يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة من دون أي روابط قد تجمعهم، ومن هناك، انطلقت فكرة تأسيس رابطة للفنانين التشكيليين، وعلى الرغم من رفض إسرائيل آنذاك منحهم ترخيصاً، لكن منصور ورفاقه من الفنانين أصروا على تأسيس الرابطة التي نظمت أول معرض مشترك للتشكيليين في القدس عام 1975، والذي انتقل بعدها إلى رام الله، ونابلس، والناصرة، وغزة، وكان بمثابة أول اتصال بين الفنان والجمهور الفلسطيني المتعطش للفن .
ويقول منصور "كان الفن الفلسطيني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يبحث عن وسائل للتعبير عن الهوية الوطنية، وركزت في لوحاتي على التراث ولا سيما الأزياء الشعبية، والتطريز الفلسطيني من حيث قدمه وتنوعه وانتشاره الواسع، وركزت على استعمال الأزياء الشعبية والتطريز بكثرة في أعمالي الفنية، بإنشاء رموز تصويرية للنضال الفلسطيني عن الثورة والوطن والأم، فرسمت شجرة البرتقال (التي تعتبر رمزاً لنكبة 1948)، وشجرة الزيتون، ونقوش التطريز الفلسطيني، وشخصية المرأة الفلسطينية التي تظهر بكثرة في أعمالي الفنية، فالمرأة الفلسطينية شريكة في النضال والحب، بالإضافة إلى النواحي الجمالية والتعبيرية التي تحملها في الفن، ولغاية اليوم أرسم المرأة لأنني ما زلت أبحث عن الثورة والوطن المحرر".
"جمل المحامل"
رسم منصور حوالى 600 لوحة، وافتتح خمسة معارض فنية باسمه في دول مختلفة، وهو صاحب اللوحة الشهيرة "جمل المحامل"، التي رسمها في منتصف السبعينيات، والتي تصور عجوزاً فلسطينياً يحمل القدس وصخرة الأقصى على ظهره، مربوطة بحبل الشقاء ومتجهاً إلى وجهة غير معلومة حيث تركها منصور للمشاهد، وربما للزمان، كي يقررا نهاية رحلة العجوز.
ويكمل منصور "تحولت لوحة "جمل المحامل" إلى رمز للنضال الفلسطيني، وعندما رسمتها لأول مرة عام 1973، لم أتوقع أن تصبح رمزاً للنضال الفلسطيني، وكانت النسخة الأصلية من "جمل المحامل"، فقدت في القدس القديمة، ورسمت نسخة ثانية عام 1975، وبيعت في معرض بلندن لصالح الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي عبر سفير بلاده في لندن آنذاك، ولا أعرف مصيرها الآن، أما العمل المباع في (كريستيز) بدبي، فهو النسخة الثالثة من اللوحة، وقمت بإضافة بعض التغييرات الطفيفة على النسخة الأصلية، من بينها رسم لكنيسة بالقرب من قبة الصخرة، وقد فرض الواقع الفلسطيني الموجع ألوانه على لوحاتي، وأميل لاختيار الرماديات والألوان المطفأة بشكل عام، كما أنني عندما أعالج موضوعاً يتعلق بأرضٍ مسروقة من أصحابها، أجد نفسي لا شعورياً، ألجأ إلى اللون البني والرمادي في أعمالي".
معارض وجوائز
شارك منصور في تأليف كتاب الملابس الشعبية الفلسطينية، وكتاب دليل التطريز الفلسطيني، وعمل في تدريس الفن في دار المعلمات عام 1975 وساهم في تطوير الصناعات الحرفية في جامعة بيرزيت، وكان رئيساً لرابطة التشكيليين الفلسطينيين بين عامي1986 و1990.
كما أقام معارض عدة في رام الله، ونيويورك، والشارقة، والنرويج، والقاهرة، وشارك في معارض جماعية في فلسطين، وواشنطن، وبيروت، وأوسلو، والكويت، والمغرب، ونيويورك، وعمان، وستوكهولم، وباريس، وكوريا، وقطر، والمغرب، وحاز على جوائز عدة منها جائزة معرض الربيع الأول في فلسطين عام 1985، وجائزة فلسطين للفنون التشكيلية عام 1998، والجائزة الكبرى في بينالي القاهرة التاسع عام 1998.