هناك كثر من بين مؤرخي الحضارات "يلاحظون" دون أدنى تردّد عادة، أن ليس للحضارة الفرعونية كتب ملحمية أو فكرية من "أيّ نوع كان" تجعل لها ذلك التراث الأدبي الذي اعتاد أن يرتبط بمثيلاتها من الحضارات الكبرى التي عرفتها الأزمنة القديمة. والحقيقة أن جولة بين المعابد الفرعونية المنتشرة في الجنوب المصري على الأقل، ستمكننا من العثور على مئات بل آلاف النصوص إنما مدوّنة على الجدران وليس بلغة واحدة بل بأكثر من لغة تبعا للسلالات والمناطق، ودائما متجاورة مع رسوم توضيحية تدخل أحيانا ملكوت الفن الكبير. بل إن في وسع المرء أن يعثر على ضالته حتى في ألوف النصوص التي سُجلت على ورق البردى وحفظتها ألوف السنوات التي مرّت على تدوينها. ولا ريب أن الأشهر بين تلك النصوص "كتاب الموتى" الذي اكتُشف عند بدايات القرن التاسع عشر ليضحي من حينها واحدة من العلامات الأساسية للآداب الفرعونية، ولكن ليتّسم بنوع من سوء الفهم أضفى على تلك الحضارة بعدا ربطها بفلسفة الموت.
من الموت إلى نور النهار
فمنذ أيام اكتشافه الأولى عُرف هذا الكتاب بعنوانه المفترض له: "كتاب الموتى" ومع ذلك لا بد أن نوضح أن للكتاب اسما مختلفا تماما مدوّنا عليه ومن المدهش أن معنوينينه لم يبالوا به: اسم لا يبدو قريبا في معناه من العنوان الذي عرفنا به الكتاب ولا نزال نعرفه حتى اليوم: "كتاب الخروج إلى النهار". صحيح أن الكتاب موضوع للموتى الذين هم، في نهاية الأمر، المحتاجون إلى الخروج من ليل الموت إلى نهار الحياة، غير أن تبديل العنوان أدى دائما إلى التعامل مع الحضارة الفرعونية دائما بكونها حضارة موت، بالإستناد إلى العنوان المتداوَل للكتاب، كما بالإستناد إلى الدور المفترض للأهرامات بوصفها أضخم وأعظم المقابر في تاريخ البشرية. ومن هنا، بالتالي راحت تصنيفات الملاحم الأولى في التاريخ الواعي للإنسان تفرض تلك التوصيفات التي جعلت من الحضارة الإغريفية حضارة حب وحرب وبطولات وتجوال ("الإلياذة" و"الأوديسة")، ومن الحضارة السومرية حضارة سعي إلى الخلود وبحث عن معنى الوجود (جلجامش)، ومن الحضارة الهندية، حضارة صراع على السلطة وتفكك العائلة وانتصار الخير على الشرّ ("المهابهاراتا" و"الرامايانا") وما إلى ذلك. ما احتفظ بالتالي للحضارة الفرعونية بصفة حضارة الاحتفال بالموت ("كتاب الموتى"). والحقيقة أن المرء لا يمكنه أن يقبل بهذه القسمة إلا انطلاقا من العنوان الآخر، "المنسيّ" للكتاب بمعنى أن الموت ليس سوى عبور إلى النهار لا بد منه. وذلكم هم بعد كل شيء المغزى الحقيقي لكل ذلك الاحتفال الفرعوني بالموت بوصفه احتفالا بأبدية الحياة وهيمنة النهار (النور) على ممر الظلمة.
دليل لعبور المرحلة الأصعب
بهذا المعنى إذاً، يصبح كتاب "الموتى" دليلا عمليا للكيفية التي يُحضّر بها الموتى لحياة ما بعد الموت. وهو أمر لا يحتاج المرء إلى التعمّق كثيرا في قراءة نصوص الكتاب كي يدركه. حسبه أن يطّلع عليه. ولعل أول ما يتعيّن الإشارة اليه هنا هو أن "كتاب الموتى" ليس نصا واحدا، بل هو مجموعة من نصوص وصلوات ووصفات ونصائح وحتى حكايات أحيانا، دُوّنت على لفائف من ورق البردى كان يعثر عليها في القبور والأضرحة الضخمة ولا سيما إلى جانب المومياءات العائدة إلى الملوك والأعيان وما شابه ذلك. ومن هنا كان من الطبيعي ربط النصوص بالتقاليد والمعتقدات العائدة إلى الموت والكيفية التي كان المصريون يتعاملون بها مع ذلك الحدث الأساسي في وجود الفرد. وهم لم يكونوا يتعاملون معه كخاتمة نهائية للحياة، بل كبداية لحياة أخرى. كلحظة انتقالية بين حياة أولى فانية وحياة أخرى خالدة. ومن هنا كان هذا النص يودَع في تابوت الراحل أو في قبره غير بعيد من متناوله موجها اليه النصح ساردا له من التعليمات ما يكفيه لكي ينتقل إلى النهار الجديد، نهار ما بعد الموت، باطمئنان مطلق. ويقول علماء المصريات أن هذه العادات كانت متبعة في مصر الفرعونية منذ القرن الخمس والعشرين ق.م. على الأقل. صحيح أن المستكشفين قد عثروا على العديد من نسخ لهذا الكتاب لكن اللافت كان دائما أن المقاطع الأولى والأخيرة من معظم النسخ كانت ممزقة ما اقتضى عملا دؤوبا لتوحيد النصوص واستعادة ما كان يمكن أن تكون المقاطع المنتزعة أو الممزقة تضمه. ومن هنا انتهى الأمر إلى ايجاد نسخة أكثر اكتمالا هي التي تعتمد اليوم ومنذ وضعها الباحث الألماني ر. ليبسينس في العام 1842 بعنوان "كتاب الموتى لدى المصريين" ما فرض هذا العنوان منذ ذلك الحين. والجدير ذكره أن هذا الإنجاز الألماني المحفوظ اليوم في متحف تورينو الإيطالي، يستند إلى نسخة دوّنها منذ عصر البطالمة المدعوّ إيفونه. ولقد جرى التعارف على ان النسخة الأصلية كُتبت أول الأمر بالحروف الهيروغليفية أيام الأسرة التاسعة عشر، ومن ثم بالحيراتية وبعدها بالديمونية، وهما لهجتان متفرعتان عن الللغة الهيروغليفية، ما يعني أن كل تطور زمني كان يأتي معه باستخدام لغوي جديد ما يكشف عن القيمة الإستعمالية للنصّ أكثر مما عن قيمة مقدّسة له.
مشاهد من المحاكمة الأخيرة
وتفترض هذه القيمة الإستعمالية (العملية) للنصّ أن الميت قادر على أن يولد من جديد بفضل طقوس تمارس يوم رحيله ستمكنه لاحقا من أن يفيق من موته لبتبع الإله رع خلال رحلة نهار وليل يقوم بها في السماء وعبر الجحيم. وهو خلال تلك الرحلة سيكون عليه أن يقوم بأعمال محددة وينشد صلوات وأناشيد معينة تكريما لألوهيات قد لا تكون هي نفسها بالنسبة إلى كل ميت. والكتاب يلقنه تلك الأناشيد والصلوات إضافة إلى أنه يطلعه على ما ينبغي أن يقوم به كي يتمكن من عبور الإمتحانات والمحن التي سيمر بها قبل طلوعه إلى... النهار، أي قبل عودته إلى الحياة من جديد، ولكن ليس بالضرورة إلى الحياة القديمة التي كانت حياته قبل موته. ويشغل أوزيريس مكانا أساسيا في الكتاب وطبعا لكونه "الإله الذي رضي بأن يموت مثل البشر العاديين قبل أن يعود مرة أخرى إلى الحياة"... ويعتبر أوزيريس بالنسبة إلى الفراعنة القاضي الذي يتولى محاكمة الموتى في الحياة الأخرى.
ولمشهد المحاكمة نفسه وصف في الكتاب ينتمي إلى نوع من إبداع مدهش، حيث يكون على الميت أن يظهر أمام المحكمة بنفسه محاطا باثنين وأربعين قاضيا من مشاركيه في حياة الآخرة، وهو يدخل القاعة الكبرى في حضور إلهتي الصواب ماآت المميزتين في الرسوم الفرعونية بريش النعام المحيط بشعرهن. وفي المقابل يجلس أوزيريس بتاجه الملوكي الأبيض. ثم تظهر إيزيس وحدها أو مصحوبة باختها الصغرى نفتيس إلى طاولة مزينة بأنواع النباتات والقرابين والزهور، إضافة إلى زهرة لوتس ترمزا للإله أنوبيس. وإلى جانب الطاولة يقف أبناء حورس الأربعة. وفي حضرة كل هؤلاء سيكون على الميت المتطلع إلى "الخروج إلى النهار من عتمة الموت" أن يبرهن على أنه لم يخرق خلال حياته الدنيا أيا من الأعراف أو قواعد الأخلاق. ويكون دافنو جثمان الراحل قد وضعوا أصلا على صدر جثمانه، كضمانة لصدقه فيما سيقول أمام المحكمة، حشرة من حجر نقشت عليها كتابات معينة تشكل تلك الضمانة. ومن المنطقي أن الراحل إن تمكن من إقناع محاكميه بصدق ما يقول ولم يخذل أهله وأحبته الذين كانوا قد ضمنوه، سيكون قد فتح لنفسه طريق الآخرة الأكثر سعادة.
ولما كانت النسخ الأساسية التي تم العثور عليها حتى اليوم من "كتاب الموتى" كتبا مصورة، نجدها تتضمن رسوما في منتهى الجمال، لُوّنت بألوان رائعة لمشاهد من الحياة الآخرة فيها أنهار على الناجي من المحاكمة عبورها في مركب، وحقولا يجتازها وهو يزرعها ويحصدها... كما أن الكتاب، في نسخ كثيرة منه على الأقل، يعطي من النصائح ما يمكّن عابر الأنهار والحقول من تفادي تلك الأشغال الصعبة... ترى أفلن يقال لاحقا أن الدين يسر لا عسر؟