Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العلاقة الشائكة بين الريف والمدينة في "أيام الأدب الأوروبي"

اليمين يتوسع في المناطق الريفية والقمامة تمثل إحدى أزمات العصر المتمدن

إحدى جلسات الحوار في المهرجان (اندبندنت عربية)

ملخص

في دورته الـ16 ناقش مهرجان "أيام الأدب الأوروبي" الذي أقيم في مدينة كرمس النمسوية عنواناً عريضاً، وهو "عالم ممزق – مدينة وريف"، مستضيفاً عديداً من الروائيين والفنانين والمسرحيين والاقتصاديين، وحتى المهندسين، ليشكل هذا النقاش مائدة معرفية وثقافية تناسب مختلف المشاغل والهموم.

تحت العنوان العريض "عالم ممزق – مدينة وريف" عقدت جلسات صباحية ومسائية، باللغتين الألمانية والإنجليزية، متفرعة إلى عناوين فرعية مثل "المدينة والريف في القرن الـ21" و"حقول محترقة" و"قمامة" و"المدينة ونجاح الاندماج" و"هل الحياة في الريف شاعرية؟". وصاحبت هذه الجلسات مقطوعاًت موسيقية حية تستعيد موسيقى المكانين.

وما يحسب في صالح إيجابيات هذه الدورة أنه لم يتم النقاش فقط مع روائيين ومسرحيين وقصاصي أو شعراء، كتبوا نصوصاً عن أحد المكانين أو المكانين معاً، بمعنى النقاش الأدبي والعاطفي، بل تم التوسع نحو نقاش معرفي وثقافي باستضافة مهندسين معماريين وباحثين اقتصاديين وباحثين في السياسة وعلم الاجتماع والتاريخ. وليس من الدول الأوروبية فحسب، كما جرت العادة في نسبة كبيرة من الدورات السابقة، بل من آسيا وأميركا الجنوبية، لتوسيع النقاش أكثر، وإخراجه من النطاق الأوروبي نحو مناطق أبعد وأكثر اختلافاً عن المدن والأرياف في القارة العجوز.

في الجلسة الأولى، وفي حوار مشترك، بين الروائي والفنان الألماني كريستوف بيترس (1966) والكاتبة والفيلسوفة والمحاضرة النمسوية ليز هيرن (1984) بدأت تسري المعلومات المثيرة للحضور، وبدا كلاهما متعمقاً في تفكيك الأمكنة وفهم العلاقة معها.

كريستوف بيترس، الذي ترجمت إلى العربية عدة أعمال له مثل "حجرة في دار الحرب" (رواية) و"استئناس الغربة" (رواية) و"سيلفي مع الشيخ" (رواية) و"الشاي" (انطباعات وبحث)، غادر قريته باكراً نحو الدراسة ومن ثم التفرغ للكتابة، في لايبزيغ، ثم برلين التي يقيم فيها حالياً، لذلك عندماً يعود إليها، إنما يعود بعين الباحث والمراقب. وهو منذ روايته الأولى "مدينة ريف نهر" (1999) بدا ملتصقاً بعنوان هذا النقاش وتفاصيله. وأعطى انطباعات مختلفة عن حياتي الريف والمدينة، وبأنهما "منفصلتان تماماً"، وبأن التجمعات الريفية التي تبدأ في العادة "عائلية وزراعية واقتصادية"، سرعان ما تصبح "دينية وكنسية"، والذي "يتمسك بالسكن في الريف يجد المدينة مكاناً خطراً وبلا نكهة"، بينما الذي غادر الريف وتمسك بالسكن في المدينة يجد أنه أخيراً "عثر على الحياة التي لها معنى". ويقول إن "اليمين الألماني يزدهر في الريف"، وإن نسبة من اقترعوا من أبناء قريته لممثلي اليمين كانت 43 في المئة.

حدود حقيقية

أما ليزا رأت فرأت أن هناك "حدوداً حقيقية وراسخة بين الريف والمدينة"، وأن التطورات الاقتصادية والمادية والمعمارية والتكنولوجية، لم تستطع "محو تلك الحدود نهائياً، على رغم عملها الدؤوب على إزالتها". ففي الريف ما زالت هناك "مزارع عائلية للبقر والطيور والمواشي والخنازير"، والأهالي "ما زالوا ينتجون ذاتياً الحليب واللبن والجبن والزبدة والنقانق"، وأنهم ينزلون ببضائعهم إلى المدينة، من خلال سوق تنظم مرتين في الأسبوع في كل مدينة، ليبيعوها شخصياً، وما زال هناك الإقبال الجيد من المشترين، "على رغم ارتفاع أسعار المزارعين في أكثر الأحيان عن أسعار المصانع".

وقال كريستوف إنه ما زالت تجذبه "شخصيات النساء المزارعات القويات مع آلاتهن وحيواناتهن"، كلما عاد إلى الريف، وأنه يحب ذلك "الاستقلال عن الوظيفة في الريف" لمزارعين وفلاحين ورعاة ما زالوا يعيشون من مردود تلك الأعمال.

ولكن ما الذي يجعل أولئك الريفين يفضلون الاستمرار في ريفهم؟ سؤال وجهناه إلى كليهما، واتفق كلاهما على أن سبب ذلك يعود، إضافة للارتباط بالأسلاف والكنيسة والعادات والتقاليد، إلى الميزات السلبية كذلك للمدن، مثل تسمم الهواء والضجيج وارتفاع أسعار العقارات وسوء معايير النظافة وضيق الأماكن وانعدام التواصل الاجتماعي وتحول الناس إلى آلات تعمل تحت تصرف وسيطرة الجشع. وربما يكون كذلك، مع تحفظ كل منهما، بسبب حب "العودة إلى المحافظة"، وربما "وجود كثير من الأغراب"، وهو ما قد يفسر العقلية الأقرب إلى عقلية اليمين.

مدينة للجميع

ومن الأمور التي تحسب لإدارة المهرجان دعوة المهندس المعمار الياباني/ التشيكي أوسامو أوكامورا (1973)، وهو أستاذ جامعي وعميد كلية الهندسة المعمارية في إحدى المدن التشيكية، وهو مؤلف كتاب "مدينة للجميع"، الذي يتناول فيه المشكلات الحضرية والبيئية والاقتصادية وتأثيرها في المدن الكبرى والصغيرة والأرياف المحيطة بها.

 تحدث أوسامو عن إقاماته وتنقلاته ودراساته حول المدن الكبرى، مثل لندن وفيينا وروما (أوروبا) وإسطنبول وطوكيو (آسيا) وبيونس آيرس ونيويورك ولاس فيغاس (الأمريكتين)، وأرياف تلك المدن، بطريقة حكواتية ممتعة شدت الجمهور لأكثر من ساعة ونيف.

ومع استعماله تقنيات الفيديو والعرض، قدم أوسامو للجمهور جماليات المدن في الإعلام، وكوارثها على أرض الواقع، من حيث التلوث والضجيج واختلاف أمزجة الجيران وارتفاع أسعار البيوت و"ميكانيكية الحياة" في المدن، وهي التي جعلت الحياة أقرب إلى "حياة استهلاكية منعزلة وخفيفة وسريعة"، والتي تسببت في "التناقص التدريجي لعدد سكان المدن الكبرى، واستحسان الناس السكن في المناطق المحيطة بها".

كتاب أوسامو، الذي يقدم 14 نموذجاً للمدن العالمية، وصدر في عدة لغات، يتحدث عن المدن الكبرى والمدن الجميلة والمدن الناجحة والمدن الفاشلة، وتأثير الركود الاقتصادي والإرهاب والتلوث البيئي وبقية المشكلات التي تعانيها المدن أكثر من أريافها.

ولكن "ليس هناك مدينة كاملة من كل النواحي". قال أوسامو عندما سألناه عن هذا الأمر. ثم استطرد "وإذا وجدت مدينة كهذه، فبالتأكيد هناك مشكلة، أو خطأ ما، في تلك المدينة، أو ذلك النموذج". وعن المدن العربية قال إنه زار القاهرة والإسكندرية وعمان ودبي، وإنه تفاجأ بالمدينة القديمة في دبي، متوقعاً أنه لا توجد مدينة قديمة فيها، محتفظة بألق الزمن وأثره. وزار القدس، لكنه سرعان ما غادرها لأسباب عدة، منها الخوف وتشتت الذهن.

الكاتبة والمحامية البريطانية سارة لانغفورد، التي تعيش مع عائلتها في مزرعة تملكها، قالت "إننا نحتاج إلى المساحات الخضراء النظيفة. نحتاج إلى الألوان الطبيعية. نحتاج إلى الأشجار والأزهار والأعشاب، وهي تنظف الأرض والهواء من حولنا من السموم. نحتاج لأحد ينقذنا من عنف الحياة المادية. والاستهلاكية". وهذا ما تحدثت عنه بالتفصيل في كتابها "عن الجذور".

قمامة العصر

في اليومين الأولين، عند النقاش مع الروائيين، لم يكن الكلام محصوراً في أعمالهم، بل عن عيشهم وانطباعاتهم، في شكل ما، وتوصياتهم. اختارت إدارة المهرجان كاتبين قدما أعمالاً تعطي التفاصيل التي قد يسهو عنها عنوان من عناوين المهرجان. وقبل النقاش حول  روايات معينة، كان هناك نقاش مع المؤرخ الألماني رومان كوستر، وكتابه المثير "قمامة"، وهو كتاب تناول فيه تاريخ القمامة منذ آلاف السنين، بل تطور القمامة منذ العصور الأولى وصولاً إلى العصر الحديث. وبالطبع تناول تأثير القمامة على البشر والحيوان والبيئة، مع المرور على تجارب الدول الناجحة في إعادة تدوير أنواع عدة من القمامة.

جهد كبير، دام سنوات عدة، قضاه رومان كوستر، الذي يعمل كمساعد باحث في اللجنة التاريخية لأكاديمية العلوم البافارية، في ملاحقة تاريخ القمامة في أوروبا وأميركا وأفريقيا ووسط آسيا. والقمامة التي قصدها هي ليست فقط القمامة العادية التي توضع في الأكياس والحاويات وترمى خارج البيوت والمصانع والمعامل والمزارع، بل كذلك قمامة الحروب وقمامة المقابر والبشر والمصانع الصغيرة والكبيرة، وصولاً إلى قمامة التكنولوجيا. لم يكن النقاش بحثياً فحسب، بل رافقه كثير من القصص والفكاهة والسخرية، بخاصة عندما عرف الجمهور أن قمامة البشر تعني كذلك أجسادهم حين تموت.

شارك في المهرجان الكاتب النمسوي راينهارد كايسر موليكير (1982)، ابن مدينة كرمس التي تقيم المهرجان كل عام، وتمت مناقشة روايته "حقول محترقة"، البالغة حالياً القائمة القصيرة لجائزة الكتاب النمسوي، وكانت مميزة، بخاصة أنه يعيش في مزرعة يملكها، ويقوم بأعمالها كذلك. ولذلك نجد عناوين رواياته السابقة تشي بالريف وعناصره، مثل "الممر الطويل عبر المحطات" (2008) و"ليلك أحمر" (2012) و"ليلك أسود" (2014) و"نزع الملكية" (2019).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

روايته الجديدة "حقول محترقة" تبدأ مع معرفة "لويز" أن والدها "بوب" ليس والدها البيولوجي، فتبدأ تداعيات حياتها المستقرة سابقاً، والقلقة والمرعبة بعد ذلك، بالظهور. تبرز محطات حياتهما في الريف والمدينة، وحياة الشخصيات الأخرى التي تعيش في الريف النمسوي. راينهارد الذي اعتبر سكنه وعمله في المزرعة "نوعاً من الالتزام بأن يجعل العالم الذي يعرفه قابلاً للتجربة لمن لا يعرفه"، أكد كذلك صعود اليمين في الريف، وقال إن نسبة من انتخبوا مرشحي اليمين في الريف الذي يسكن فيه كانت 73 في المئة!

مدينة الآخرين

من بين المشاركين المميزين كذلك كانت الكاتبة البرازيلية باتريشيا مليو (1962)، وهي تكتب الروايات والمسرحيات الإذاعية والسيناريوهات التلفزيونية، واشتهرت من خلال أعمالها البوليسية، كأحد أفضل الكتاب البرازيليين المعاصرين في هذا النمط. وخلال المهرجان نوقشت حول إصدارها الأحدث "مدينة الآخرين"، وهي رواية تجري أحداثها في ساو باولو، وتقصد بالآخرين المشردين والغرباء. وتحاول فهم كيف يصبح الشخص من دون مأوى، أو مشرداً، وكيف يعيش ذلك الشخص وماهي مصادره، وكم من الزمن يستطيع أن يتحمل العيش هكذا، وكيف يختار المكان أو الأمكنة التي عليه المبيت فيها.

باتريشيا تطرح فكرة مهمة، وهي أن هناك من يقول إن المشرد لا يعمل، و"هذا خطأ كبير، فالمشرد يتوقف عن العمل فقط عندما ينام، فهو يبحث عن مأكله ومشريه ومكان آمن من الناس ومن الطبيعة ومن الحيوانات، كي يبات فيه". وعند سؤالها عن ساعات عمل أي مشرد، قالت باترسشيا "إذا قلنا إن متوسط نوم المشرد هو 6 ساعات، فهو بذلك يعمل مدة 18 ساعة متواصلة". وعن دوافعها ومصادرها في الكتابة، قالت صاحبة رواية "مديح الأكاذيب" (1998) إن دافعها للكتابة يأتي من "مراقبة الواقع، وقبل كل شيء مما لا يمكن قبوله أو حتى فهمه".

 جائزة التسامح

اختتم مهرجان "أيام الأدب الأوروبي" دورته الـ16 بتسليم "جائزة التسامح" للكاتب الإسرائيلي المعروف ديفيد غروسمان، وتبلغ قيمتها 10 آلاف يورو. وجائزة التسامح هي جائزة سنوية يمنحها اتحاد الناشرين النمسويين إلى كاتبة أو كاتب أسهم في "نشر قيم التسامح ضد المفاهيم المتصاعدة للعنصرية أو الكراهية". وبسبب أهمية المهرجان، قرر المسؤولون عن الجائزة توزيعها في اليوم الأخير للمهرجان، وهذا منذ عام 2017.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة