كيف تعبر النساء الحدود المفروضة عليهن والمرسومة منذ لحظة الولادة؟ وما هو دور الأم في هذه الرحلة؟ هل تزيد من صعوبة العبور أم تجعله حقاً لابنتها؟ لا بد من أن تصاحب العبور منظومة فكرية كاملة نابعة من داخل الثقافة ومناهضة لها في آن واحد، فالخطاب الذكوري يُقوّض من الداخل وليس من الخارج، وقد تكون الأم جزءًا منه. الرحلة دائماً صعبة كما تصفها فدوى طوقان، وتكمن صعوبتها في احتمالية الاغتراب الفكري والنفسي أمام التناقضات التي يرتبك أمامها العقل حتى يتمكن من تجاوزها أو يلفّق لها حلولاً أو يرفضها.
نسجت المغربية فاطمة المرنيسي سردية التمرد من طرح سؤال الحريم من مدخل تاريخي وسياسي في "نساء على أجنحة الحلم" (1994)، أما التونسية مفيدة تلاتلي، فقد نسجت سرديتها في فيلم "صمت القصور" (1994) عبر ذاكرة "عالية" تستعيد معاناة أمها في الماضي أملاً في حاضر مختلف، في حين نسجت الفرنسية سيمون دو بوفوار السردية من واقع التمرد على الأم في الواقع اليومي، ثم دعمتها بالفلسفة في "مذكرات فتاة رصينة" (1958).
نشأت دو بوفوار في بيئة تُعتبر الرصانة فيها الأصل لتشكل الأنوثة، فقد كانت محاطة بعاملَيْن من الصعب مواجهتهما: بيئة كاثوليكية محافظة وقد تجلّت بوضوح كامل يصل حد التطرف في الأم، وعائلة بورجوازية حتى النخاع. فكان العبور يستدعي تجاوز الأم والدين والطبقة. لم تكن المنظومة التي يتوجب عبورها سهلة، فهي تأخذ شكل المثلث الذي يحاصر العقل بدونية النساء "الطبيعية" ممّا يجعل العبور شاقاً: فتجاوز الأم يعني الانفصال العنيف، وتجاوز الدين يعني الشعور بالإثم، أما تجاوز الطبقة، فهو ما كان يُعدُّ في فرنسا العشرينيات بمثابة جنون مطبق. تقول دو بوفوار عن أمها، إنها "كانت في لحظة، وحتى في أعمق أسرار قلبي، شاهدي، ولم أكن أميز قط بين نظرها ونظر الإله. ومن أجل هذا، كنت أعتقد أن بوسعي، بل من واجبي، أن أساويها بالتقوى والفضيلة".
في مذكرات المرنيسي، يأتي السرد من وجهة نظر طفلة في السابعة تعيش في حريم في مدينة فاس، ما يفتح المجال لعددٍ كبيرٍ من الأصوات النسائية التي تُشكل هذا الحريم. في الحريم، تتشابك علاقات القوي التي ترتبط بالمكانة الاجتماعية والسن والطبقة. فإذا كانت الرصانة هي السلوك الطبيعي لتشكّل الأنوثة في فرنسا، فإنّ الالتزام بقواعد الحريم الذي يتشابك ويتداخل مع أفكار عقائدية يبدو هو العقبة في طريق العبور. إلاّ أنّ كلاًّ من السياقين- الفرنسي والمغربي- قاما على أسس دينية - الكاثوليكية والإسلام - ترسخ مكاناً محدداً للنساء. وعلى الرغم من دعم الأم لابنتها "فاطمة" وتشجيعها على كسر منظومة الحريم، كان هناك عاملٌ إضافيٌّ في المغرب يُصعّب من رحلة العبور: الاستعمار الفرنسي والإسباني. فكان الأب يقول: "إننا نعيش أوقاتاً صعبة، فالبلاد في يد المحتل الأجنبي، وثقافتنا مهددة ولم تبقَ لنا إلاّ التقاليد". ففي أثناء الاستعمار، يتركز هم المستعمَر علي الحفاظ علي هويته، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال النساء، إذ تُعدُّ المرأة رمزاً للوطن ومن أجل الحفاظ على هذا الوطن، لا بد من الإبقاء على وضع النساء من دون مساس. كان على "فاطمة"- الطفلة ذات السابعة- أن تحاول العبور من داخل المنظومة الدينية التي تُكرّس لفكرة الحريم، فجاءت الأسئلة "الطفولية" التي تطرحها على النساء/الأمهات بمثابة تحديات تكشف التناقضات الكامنة داخل الفكرة ذاتها فتتحول إلى ثغرات عبور. وفي كل ثغرة، كانت الأم تقول لابنتها "عليك أن تتعلمي الصراخ والاحتجاج كما تعلّمتِ المشي والكلام، إذا كنت تبكين حين تسمعين السباب، فكأنك تطالبين بالمزيد".
الأم والحريم
في "صمت القصور"، ترصد تلاتلي مرحلتين في حياة "عالية". الأولى هي مرحلة طفولتها في القصر وسط الحريم وقد كان معظمها في أثناء مرحلة الاستعمار. كانت طفولة مرتبكة ما بين رفيقة اللعب، ابنة أخت ، سيد القصر ، وما بين رؤيتها لأمها- التي بيعت للأسرة وهي في سن العاشرة- وهي تخضع للرغبات الجنسية للسيد، ثم اصطدامها بمشاكل الطبقة الواضحة. من قلب منظومة الطبقة والاستعمار والجندر، تتمرد "عالية" وتغادر القصر لتصبح مطربة، في إشارة إلى امتلاكها لصوتها، لكنه صوت لا يصل لأنه يأتي عبر وسيط ذكوري وهو رفيقها "لطفي"، المناضل الوطني. أما المرحلة الثانية، فهي فعل الذاكرة، ذاكرة الألم والقهر لما عانته الأم، وهي ذاكرة متأخرة من ناحية أنها تنفجر بالصور بعد موت السيد، لكنها أيضاً تساعدها في الشدو بما تختاره من أغانٍ، وهو فعل رمزي يحمل دلالة رفض الخطاب السائد، ويجعلها تواجه رفيقها "لطفي" بتمردها. يقدم فيلم "صمت القصور" سردية كاملة لوضع النساء في الاستعمار وما بعده، لتظهر الحقيقة المخزية، لم يتغير الأمر كثيراً، ممّا يحتم على الفرد أن يسلك الدرب بمفرده، وهو ما فعلته "عالية". كانت الأم هي محرك البحث عن المعنى والجوهر لكل ما يحدث. فعلى الرغم من أنّ الأم كانت خاضعة للنظام الطبقي وعلاقات الجندر غير المتكافئة، إلاّ أنّها كانت حريصة على إبعاد ابنتها عن التجربة ذاتها، ولذلك كان تحذيرها لها من "الصعود إلى فوق" دالّاً وكاشفاً، وقالت لها صراحة: "مكانك معي في المطبخ".
لا يقوم دور الأم منفرداً من دون تعزيزات، بل هو مدعوم من قبل الطبقة والدين والمكان. فالأم بوصفها امرأة خاضعة للقيود المجتمعية ذاتها وملتزمة بمفاهيم الجندر ذاتها، قد تقوم بدور إعادة إنتاج - وترسيخ - القيم الذكورية، كما هو الحال مع أم دو بوفوار، وبالتالي، تعلن رفع يد الحماية عن الابنة، رمز العقوق وخيبة الأمل، أو قد تكون داعمة للابنة- كأم المرنيسي- مُعوّلةً عليها الآمال في تشييد مستقبل مختلف عن الحريم، لكنها في الوقت ذاته خاضعة قهراً لسلطة أمهات أخريات في الأسرة الممتدة يتمتعن بسلطة ما. أما والدة "عالية" ("خديجة") فهي تبدو كالقربان الذي كان لا بد من تقديمه إلى المجتمع من أجل أن تستعيد "عالية" كل الذل والمهانة، فيشدو صوتها بأغنية مختلفة.
في غالبية الأحوال، لا يتوافق دور الأم مع المثالية والرومانسية التي تغلّف الخطاب السائد سواء كان الواقعي أو الأدبي، فالأم دائماً ما تنصّب نفسها حارس البوابة الذكورية وهو ما يجعل رحلة العبور صعبة مليئة بالشعور بالذنب ومحاولة كسب الرضا.