منذ روايتها الأولى، "متّ يا حبي" ، فرضت أريانا هارفيكس نفسها كأحد أهم أصوات الأدب الأرجنتيني المعاصر. ولا عجب في ذلك، ففي هذا العمل الصاعق الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، أحدثت ليس أقل من زلزال داخل الأدب بتفكيكها كل شيء، بدءاً بالشكل الروائي، مروراً بمختلف الشخصيات الروائية النسائية المعتادة، وانتهاءً بحساسية القارئ، عبر أخذها إياه إلى حيث لا يرغب في الذهاب، أي إلى ذلك المكان داخلنا الذي يحوم فيه الجنون مصحوباً بالرعب.
كما يشير إليه عنوانها، موضوع هذه الرواية المحمومة هو الأهواء المتضاربة وغير المتوقّعة التي تواجهها الأم مباشرةً بعد الإنجاب. أهواء اختبرتها هارفيكس شخصياً حين أنجبت طفلها الأوّل: "شعرتُ بانسحاقٍ كلّي وبشيء يدفعني عنوةً نحو الموت". وفعلاً، إثر مشاعر القلق المروعة التي انتابتها أمام رضيعها وزوجها الذي باتت غير قادرة على التعرّف إليه، وأيضاً استخزائها من هذه المشاعر، أحسّت بحاجة ملحّة إلى التحرّر من حمْلها عبر رميه على أحدٍ آخر أو إفراغه بطريقةٍ ما. هكذا فرضت الكتابة نفسها عليها كسدٍّ في وجه الجنون الذي كان يتربّص بها.
الرواية التي يتعذّر تصنيفها مكتوبة على شكل فيضٍ من الوعي تختلط داخله سردية حياة زوجية تقوّضت بسبب ولادة طفل، والرؤى، الخارقة تارةً والكابوسية تارةً أخرى، لامرأة ــ الراوية ــ تعيش في منطقة ريفية نائية وتصارع بطاقة اليأس شياطينها: ملل النهارات المتواصلة، عذابات الليالي، شعور الارتهان ــ لذاتها وللعالم ــ إضافةً إلى نزوعات الرغبة والعنف التي تتسلّط عليها ولا تلبث أن تصدّع حياتها الهنيئة نسبياً مع رفيق دربها.
هكذا نراها منذ بداية الرواية تتخبّط في حالة عدم استقرار وخارجة عن السيطرة، وبسبب ذلك، أُلصِقت بها صفات "الغريبة" و"الهستيرية" و"المجنونة". وفي الواقع، لا مبالغة في الصفة الأخيرة، فالجنون يبدو كامناً لها في كل ركنٍ من أركان حياتها اليومية، على أهبّة الاستعداد للانقضاض في أية لحظة عليها. وبينما هي لا تتوق سوى إلى استعادة حرّيتها، تبدو مقيَّدة بالأدوار المتناقضة التي ينتظر المجتمع الذكوري منها أن تؤدّيها: دور الزوجة المخلصة، دور الأم الراعية، وأيضاً دور امرأة شهوانية حاضرة لتلبية الرغبات الجنسية للرجال المحيطين بها، وفي الوقت نفسه، راضخة لحُكمهم السلبي عليها بسبب تأديتها هذا الدور.
الطفل الغريب
طفل هذه المرأة يتراءى لها كجسدٍ غريب، غير مرحَّب به، مقيِّد. ومن هذا المنطلق، تبدو العناية والاهتمام والحنان التي من المفترض أن تظهرها له تارةً غير مرغوبة ولا تطاق، وتارةً كموضوع هوسٍ مفرط. وفي غالب الأحيان، تدفعها هذه المشاعر المتضاربة إلى أخذ مسافة كبيرة منه تجعلها تبدو كامرأة غريبة تتأمّل من الخارج في مشهدٍ لا علاقة لها به، وتعلّق عليه. وفي هذا السياق، نراها تعبر فجاةً، وبشكل متواصل، من الرغبة إلى الاشمئزاز، ومن التقبّل إلى الرفض، ومن إرادة الحب إلى إرادة القتل، وهو ما يعكسه بقوة عنوان الرواية. ازدواجية تصبغ أيضاً علاقتها غير المتوازنة بزوجها الذي يبدو على طول الرواية حاضراً ــ غائباً، تارةً موبّخاً زوجته، وتارةً غير مكترث لما يحصل حوله. علاقة تتعاقب داخلها مراحل من الحسّية الإروسية الشديدة وأخرى يتسلّط خلالها على هذه المرأة نفورٌ جسدي ورغبة قوية في قتل زوجها.
لدينا إذاً في هذه الرواية شخصية نسائية تنتهك جميع القواعد والمعايير الاجتماعية، امرأة تغادر في كل مناسبة، ليلاً أو نهاراً، فضاء المنزل الزوجي للهروب من أجوائه الثقيلة، المملّة، المحدَّدة سلفاً، وبالتالي المصطنَعة والمحبِطة، حيث تتعاقب الواجبات والالتزامات بطريقة طقوسية ويتمّ كل شيء تحت عيون الآخرين الناقدة. هروب إلى الفضاء البرّي والطبيعي للغابات المحيطة بهذا المنزل، من أجل التنزّه بحرّية والاقتران عاريةً بالتراب وإفلات العنان لمخيّلتها، لأحلام يقظتها المتبدِّلة ولمونولوغ داخلي يأخذ شكل حوار جامح ومتواصل مع نفسها.
وخلال هذه المغامرات المُعاشة بعنفٍ أو المتخيَّلة بقوة استيهامية كبيرة، ستنبثق وتنمو داخل هذه المرأة تلك الرغبة الملحّة في انتهاكٍ من نوعٍ آخر: لقاء في السرّ ذلك الرجل المجهول الذي يمرّ كل صباح ومساء من أمام منزلها على درّاجته النارية ويبحث بنظره عنها. هكذا ستنزلق تحت جلد هذا العاشق الوهمي وتجعله يستسلم بدوره إلى مونولوغ داخلي، حسّي، من خلالها: "الآن أتكلّم مثله. ولكوني صرتُ هو، يجفّ حلقي حين أفكّر فيها".
باختصار، "متّ يا حبي" لا تسعى إلى وصف الجنون أو إلى سرد بطريقة متسلسلة زمنياً قصّة شخصيةٍ نسائية تنزلق يوماً بعد يوم في اتجاهه. لا، هذه الرواية هي بذاتها الجنون، بنيةً وكتابةً. جنون يجد القارئ نفسه منغمساً بلا مقاومة في هذيانه بفضل واقعية لغةٍ فجّة إلى حدود الفحش، وسطوة خطابٍ يفتقد للحياء لراوية سيكوباتية. جنون يأخذ شكل نثرٍ غاضب وهلسي يحطّم، في فيضه الشعري الشرِس والرؤى الباهرة التي تعبره، كل ما يعترض طريقه، ناسفاً خصوصاً كل المفاهيم الجامدة التي يجهد عالمنا الذكوري في سجن المرأة داخلها. وسواء صدمنا هذا النثر إلى حدّ لا يطاق أو أغرانا إلى حد الافتتان، يتعذّر علينا البقاء باردين داخل مدّه الملتهب. ولا عجب في ذلك، فصيغة المتكلّم المعتمدة حصراً فيه تجعلنا نتشارك بحدّة وحميمية رؤى الراوية وأفكارها ورغباتها وعذاباتها ونزواتها وثورتها.
وقد يستحضر هذا النثر إلى أذهاننا قصص غي دو موباسان بجانبه السيكولوجي المقلِق، وقصص إدغار ألان بو بمناخاته القاتمة والمرعبة، و"أناشيد مالدورور" (لوتريامون) بعنف خطابه وشحنته الانتهاكيّة، لكنه قبل أي شيء نثر أريانا هارفيكس الذي دخلت بفضله عالم الأدب من بابه الواسع.