بعد مقامرة أولى أفضت إلى تهجير وقتل في شمال شرقي سوريا، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حينما تدخّل الجيش التركي في المنطقة بزعم حماية الأمن القومي لبلاده، بينما كان الغرض التخلّص من الأكراد، الفصيل الذي تعدّه أنقرة خصماً تاريخياً لها، ثمّ التورّط في قتال عسكري في إدلب تكلّف خسائر في صفوف الجنود الأتراك، ما وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موقف حرج دولياً عندما حاول ابتزاز الأوروبيين بملف اللاجئين للحصول على الدعم لتقليل خسائره في مواجهة روسيا، التي تدعم حكومة الرئيس بشار الأسد، وطرح أردوغان مقامرة جديدة لحرمان الأكراد السوريين من عائدات النفط، الأمر الذي ربما يسفر عن أزمة جديدة في الشمال السوري.
وقبل أسبوع كشف أردوغان أنه طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال محادثات بموسكو في الـ5 من مارس (آذار) الحالي بشأن إدلب، التشارك في إدارة حقول النفط في محافظة دير الزور شرقي سوريا بدلاً من القوات التي يقودها الأكراد (قسد) التي تسيطر على حقول النفط، مقترحاً "استغلال عائدات النفط في إعادة إعمار سوريا"، وأضاف الرئيس التركي أنه يمكنه تقديم "عرض مماثل" لنظيره الأميركي دونالد ترمب.
حقول النفط تتركّز في الشمال السوري، وبشكل رئيس في قامشلي ودير الزور، وغالبية السكّان أكراد، وتقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تضم إضافة إلى قوات من العرب والسريان، وحدات حماية الشعب الكردية وعديداً من الفصائل السورية.
سيطرة أميركية
وحسب سنحاريب برسوم، رئيس حزب الاتحاد السرياني، الذي تحدّث إلى "اندبندنت عربية" بشأن المشهد في الشمال السوري، فإنه "توجد حقول نفط وغاز بمنطقة الجزيرة، مثل رميلان وجبسة، وكذلك في ريف دير الزور، وعدة حقول في مناطق أخرى، وبشكل عام يوجد مخزون كبير لهذه الثروات، لكن غالبيتها غير مستثمر، وجزء قليل منه يُجرى استثماره للحاجات المحلية".
وتسيطر الولايات المتحدة على الحصة الكبرى من هذه الحقول، إمّا بشكل مباشر عبر قواتها المتبقية أو عن طريق قوات "قسد" التي تدعمها، وتبسط نفوذها على مناطق النفط في الجزيرة والحسكة، ومن ثمّ يستهدف أردوغان الاستيلاء على حقول نفط الفصيل الكردي الذي يعده تهديداً رئيساً إليه، بل يذهب إلى وصفه بـ"الإرهابي لتبرير عملياته العسكرية في الشمال السوري".
وبينما لم يواجه أردوغان معارضة كبيرة في الداخل بشأن عملية "نبع السلام"، التي أسفرت عن تشريد أكثر من 300 ألف شخص في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإنّ الحال لم تكن كذلك في ما يتعلق بالعمليات الأخيرة في إدلب التي كانت تستهدف دعم جماعات متطرفة في مواجهة قوات الجيش السوري، لا سيما أنها أسفرت عن مقتل جنود أتراك.
احتواء هزيمة إدلب
وفي تعليقات خاصة، قال سيهانوك ديبو، ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في مصر، "الرئيس التركي هدفه احتلال شمالي وشرقي سوريا تحت مزاعم وحجج باطلة"، مضيفاً، "أردوغان أصبح في ورطة كبيرة، إذ يواجه أزمة على جميع الأصعدة داخلياً وخارجياً، وإقليمياً ودولياً، وسياسياً واقتصادياً".
وتابع السياسي السوري الكردي، "تركيا تتعرّض لتصدع مجتمعي، يشبه الحالة التي مرّت بها السلطنة العثمانية قبيل انهيارها. ومن ثمّ من الطبيعي لنظام مارق، ودولة لم تستطع أن تكون طبيعية مثل تركيا (أردوغان) أن تفتش عن سبل إبقاء وجودها في سوريا وعموم المنطقة، لتمكين الجماعات الإرهابية في إدلب وفي كل المناطق السورية التي احتلتها من عفرين إلى رأس العين، وإيجاد جسر إرهاب عابر الحدود من شمال سوريا إلى شرقي ليبيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وواصل، "اقتراح تركيا باحتلال كامل شرقي الفرات وصولاً إلى مناطق النفط السورية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن تلك الخطط، إذ إنها تودّ احتواء هزيمتها في إدلب".
ويصف ديبو طريقة أنقرة في مثل هذا الاقتراح بـ"القاتل المأجور"، موضحاً أنها تقدّم "خدمة لإيران والسلطة السورية، وربما لروسيا بإخراج واشنطن من شرقي الفرات، مقابل أن لا يكون للكرد أي دور في مستقبل سوريا، وإبادتهم من خلال تغيير ديمغرافي لكامل مناطقهم، مقابل أن لا تكون لـ(قسد) أي دور في مؤسسة الجيش الوطني السوري، وأن لا يكون لمجلس سوريا الديمقراطية أي دور في العملية السياسية السورية".
ويقول، "ربما سيكون ذلك أسوأ السيناريوهات ما دام لا أحد يعلم ما مخطط واشنطن أو خطتها حيال الحل السوري؟ وفي الوقت نفسه حيال التعثر المستمر كلما نكون أمام حوار بنّاء سيادي ما بين مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا من طرف ومن طرف آخر السلطة في دمشق".
غموض أميركي
ويتفق سنحاريب برسوم، رئيس حزب الاتحاد السرياني، على أن تركيا "لا تزال تنتظر فرصاً أخرى لتقوم بهجوم جديد على الشمال السوري"، قائلاً، "نحن في حالة حرب دائمة مع أنقرة، على الرغم من اتفاقها مع أميركا بشأن وقف إطلاق النار واتفاقيتها مع روسيا في سوتشي بخصوص مناطق الشمال السوري".
وحذّر برسوم من أن أي "دور إضافي" يُمنح لتركيا الآن من قِبل الدول العظمى، لأنه "سيدفع إلى مزيدٍ من الفوضى والدمار والتهجير".
وكما كان الأمر يعتمد على الضوء الأخضر الأميركي بالانسحاب العسكري من الشريط الحدودي بين تركيا وشمال شرق سوريا، عندما شنّت تركيا هجومها العسكري في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهو ما عدّه الأكراد "خيانة أميركية لهم"، بعد أن لعبوا الدور الرئيس في دحر تنظيم داعش، فإنّ السيناريو ربما يتكرر في ظل غموض الموقف والخطط الأميركية.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنّ مهمة القوات الأميركية في سوريا "تتعلق فقط بحماية حقول النفط"، ما يدفع بالتساؤل بشأن مدى الاستعداد الأميركي لتقارب جديد مع تركيا بشأن هذا الأمر.
يرى بعض المراقبين أنّ الولايات المتحدة "لا تثق" بالقدر الكافي بتركيا خصوصاً الآن، إذ تتعاون الأخيرة بشكل متزايد مع روسيا.
وفي الأسابيع الأخيرة، زادت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في شرقي سوريا، وأرسلت تعزيزات إضافية، وقدّمت معدات لقوات سوريا الديمقراطية، حسبما أفادت وسائل إعلام محلية.
ويقول ديبو، إن الجواب سيكون بـ"لا" إذا أدركنا مسبقاً ما خطة واشنطن؟ وكيف تنظر إلى الحل السوري؟ وما الذي تبذله كي تمكِّن شركاءها الفاعلين، أي "قسد" ضمن العملية السياسية السورية؟
ومع ذلك يحذّر أنه "سيكون خطأ كارثياً إذا بالغنا في الثقة بواشنطن في ضوء الخيبات التي تعرضنا سابقاً لها. بالأساس توجد فجوة ما بين الخطاب الرسمي الأميركي والوقائع الفعلية، وهذا الشيء مرصود أقلّه منذ الحرب العالمية الثانية".
ولا يستبعد برسوم أي شيء من قِبل أميركا "خصوصاً ضمن محاولاتها كسب تركيا إلى طرفها وإبعادها عن المحور الروسي، وهذا الموقف على الأقل ربما يكون متوقعاً من قِبل البيت الأبيض. لكن، في الوقت نفسه يعوّل على التيار المعارض في الداخل الأميركي لمنع أي تدخل تركي جديد على المنطقة".
المدنيون الضحية
ويشير إلى أنه أمام السيناريو الأسوأ يبقى المدنيون "هم الضحية"، ويعانون ويلات هذه الحروب، ويضيف "ما زلنا نعاني تبعات حرب أكتوبر على رأس العين وتل أبيض، خصوصاً ملف النازحين من هذه المناطق، ولا نريد أن يتكرر هذا السيناريو في مناطق أخرى، وتكون بمثابة إنهاء لوجود هذه المكونات في المنطقة، فما هو عليه الوضع الآن مقبول، ونسعى لأن يكون أفضل للمحافظة على التركيبة الاجتماعية، أمّا إعطاء ضوء أخضر إلى تركيا يعني السماح بإقامة مزيدٍ من المناطق الآمنة للإرهابيين الذين تدعمهم".
ويبقى مصير الشمال السوري معلقاً بين أطراف دولية وإقليمية تتنازع حوله، فما بين اتفاقات لوقف النار بين واشنطن وأنقرة، ومذكرة تفاهم بين موسكو وأنقرة، يقف نظام بشار الأسد يشاهد من دون تدخل وغياب حلول سياسية، لكن لا يوجد دليل في الوقت الحالي على أن الدولة السورية يمكن أن توافق على سيناريو يُجرى فيه توجيه عائداتها النفطية إلى مشروعات بناء تتعلق بمشروع تركي للقضاء على الأكراد.
ويقول رئيس حزب الاتحاد السرياني، "قضية شمال سوريا ليست بيد الأسد، بل بيد روسيا"، مضيفاً "لا نعلم تفاصيل اتفاق بوتين وأردوغان في الخامس من هذا الشهر، وقبله لقاء الاستخبارات السورية والتركية والروسية. لذلك في هذا المحور أيضاً لا نستبعد أي شيء سلبي، فأمام المصالح الدولية والإقليمية ينهار كل شيء".
ويقول ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في مصر، "دمشق وموسكو يتحمّلان مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى، وكذلك المعارضة الوطنية الديمقراطية التي يجب عليها الدفع في إنجاح الحوار السيادي ما بين مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) ودمشق الذي لن يكون بديلاً عن التفاوض الكلي".
ويوضح، "لقد طالبنا وفق بيان رسمي لنا في (مسد) في الـ3 من نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي بأن تكون الجامعة العربية وبشكل خاص مصر طرفاً ضامناً، إلى جانب الطرف الروسي في إنجاح الحوار السيادي ما بيننا ودمشق. يمكن لمذكرة التفاهم العسكرية الموقعة ما بين الجيش السوري و(قسد) في الـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي أن تكون بداية مهيأة في طريق الحوار الناجح هذا".
ويقول ديبو، "في الوقت الذي طالب فيه أردوغان الجيش السوري بالانسحاب من المناطق التي حررها من الجماعات المسلحة الإرهابية في إدلب، راح الرئيس الأسد يدلي بتعليقات تشكك في أصالة الكرد في سوريا. السلطة السورية غير متفهمة ضرورة حل القضية الديمقراطية في سوريا، وبالتالي يوجد التقاء ما بين دمشق وأنقرة في ذلك".
ويتابع، "الديمقراطية من شأنها حلّ جميع القضايا السورية في مقدمتها القضية الكردية. الديمقراطية والحل السوري واستئصال الإرهاب يجرى في نظرنا كمجلس سوريا الديمقراطية عن طريق الانتقال السوري من نظام ودولة مركزية إلى لا مركزية، وقدّمنا في ذلك مشروع الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا".
ومع ذلك يستبعد السياسي السوري الكردي أن تقبل دمشق باحتلال أنقرة شمالي سوريا وشرقها، مضيفاً "دمشق تعلم جيداً، من خلال احتلال تركيا لواء إسكندرون، وعموم احتلالاتها بالمنطقة، أن أنقرة لا تخرج طوعياً من منطقة احتلتها".
إعادة توطين المهجرين
ويصر أردوغان على أن اقتراحه بشأن إعادة إعمار سوريا يتعلق بإعادة توطين المهجرين في هذه المناطق، غير أن برسوم يرى أن هذه الادعاءات هي "قشور لمشروعه الأساسي في التغيير الديمغرافي للمنطقة".
ويوضح، "موضوع إعادة المهجرين لا يأتي عبر الحروب، بل بالسعي نحو الوصول إلى حل سياسي، وعودة اللاجئين إلى مناطقهم الأساسية، لا أن تكون عودة لاجئين على حساب تهجير آخرين، لذلك نحن نرى أن ما يحدث هو جرائم حرب بغض النظر عنها، وكل حسب مصلحته، تركيا وحدها ليست المسؤولة عن عودة المهجرين، بل يقع الأمر على عاتق المجتمع الدولي والأمم المتحدة، للإسراع بالحل السياسي، وإيقاف عمليات التغيير الديمغرافي، التي تحدث في كثير من المناطق السورية، لا فقط في الشمال السوري".
وتتعارض سياسة إعادة التوطين التي يزعمها أردوغان مع قوانين اللاجئين الدولية، حيث لا يمكن إرسال اللاجئين إلى بلد ضد إرادتهم.