المال السهل هو أكثر الممثلين حضوراً على مسرح الأحلام، وقليلٌ منّا لم يختاله هذا الحدث المفاجئ في سلسلة الأقدار الرتيبة: المال السهل الذي يأتينا من حيث لا نحتسب، ضربة الحظ التي تشبه القصص التي نتداولها بغبطة، وقائمة المشاكل التي سوف يحلها هذا المال، أو الرغبات التي سوف ننغمس فيها متى تحقق هذا الحلم. وأساطير الأولين والحكايات التقليدية لا يغيب عنها عنصر المال السهل الذي يأتي على هيئة كنز مدفون في جزيرة ما. حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن الخسيسة إلى ثمينة، إعجاب مفاجئ من ذي جاه يعطيك وزنك ذهباً.
لا تغيير بين الماضي والحاضر
ثم لا تتغير هذه الحكايات في جوهرها بين الماضي والحاضر. فنسمع عن السهم الذي قفز فجأة في مؤشر الأسهم. ورقم اليانصيب الذي تحقق أخيراً. والوصية التي ورد فيها اسمك من دون أن يتوقعها أحد. في أحلامنا، في حكاياتنا، في ترهاتنا، وفي تنهداتنا أثناء العمل الشاق وكسب العيش والسعي وراء الرزق، هناك دائماً لمحة من الأمل والرغبة والطمع والتفاؤل بلحظة خاطفة ما تحمل معها شيئاً من المال السهل. المشكلة أن هذا المال السهل ليس حلماً لذيذاً فحسب، وليس خاطرة تخفف عنا آلام الحياة وتمضي، بل إنها سبب محوريّ في سلوكيات كثيرة، غالبيتها للأسف سيئة ومدمرة.
أزمة الرهن العقاري الكبرى التي هزت الاقتصاد العالمي عام 2008 كان أحد أسبابها الرئيسة تحويل المال من صعب إلى سهل عبر تبسيط شروط الاقتراض بشكل غير مدروس. وهو بالتأكيد السبب نفسه الذي أدى إلى كساد الاقتصاد العالمي الذي أعقب الانهيار في البورصات الأميركية عام 1929 حيث ارتكب المستثمرون قرارات متهورة طمعاً في الحصول على هذا المال السهل بلا جهد.
المال السهل والتضخم
إنه المال السهل أيضاً الذي يرفع معدلات التضخم بسبب الزيادة المفرطة في المال المعروض حسب السياسة النقدية المتبعة. إذاً، بقدر ما هو المال السهل يشكل حلماً جميلاً في ذهن الحالمين، فهو يشكل أيضاً كابوساً مخيفاً وصداعاً دائماً للمسؤولين عن إدارة الاقتصاد في أي دولة.
بعيداً عن الاقتصاد، فللمال السهل علاقة مباشرة في رفع معدلات الجريمة. والعلاقة بينهما موثقة في دراسات اجتماعية كثيرة كما هي الحال مع إدمان القمار، وتفشي الدعارة، والإتجار بالممنوعات، لاسيما في العصر الحديث الذي تراجعت فيه الأسباب الكلاسيكية لارتكاب الجرائم مثل الفقر المدقع، والحروب الأهلية، واختلال النظام، والعصابات المنظمة. وظل الدافع المتمثل في المال السهل قائماً ومستمراً في الدفع باتجاه الانحرافات السلوكية والمخالفات القانونية.
المال السهل والجريمة
دراسات في علم النفس مثلاً أشارت إلى أن دافع الحصول على مالٍ سهل يتفوق على الدوافع الأخرى في إدمان القمار مثل المتعة والتباهي وغيرها. وكذلك أشارت دراسات أخرى أن المال السهل يدفع باتجاه الجريمة أشخاصاً لا يملكون دافعاً آخر لارتكابها. ويتمتعون بدخل كاف، وحياة كريمة، وضغوط قليلة، ولكن طمعهم في الحصول على مال سهل وحده هو المحرك الأساس وراء كسر الحاجز الأخلاقي وانتهاك القانون. هذه علاقات وثيقة ومحكمة بين الرغبة في المال السهل والعديد من الجرائم والكوارث، ولكن ماذا عن علاقة المال السهل بالسلوكيات التي لا تصل إلى مستوى الجريمة؟
شيء يحدث يومياً أمام سمعنا وبصرنا يمكن إحالته بسهولة إلى الرغبة في المال السهل، ماذا عن تزييف الحقائق في وسائل الإعلام؟ وماذا عن التسويق المفرط لمشاهير التواصل الاجتماعي؟ وماذا عن النفاق الفج لذوي الجاه والمال؟ أليست هذه جرائم أخلاقية صغيرة، وكوراث مجتمعية عابرة نصادفها يومياً حد الاعتياد؟ ولكن وراء كل منها حلمٌ لطيف مخاتل متكرر وشائع اسمه: المال السهل.