تسود لدى سكان العاصمة السودانية الخرطوم هذه الأيام مخاوف حقيقية من عودة نشاط هجمات عصابات "النيغرز"، التي ظلت تمثل هاجساً أمنياً للمواطنين والسلطات حتى وقت قريب، وترتكب جرائم النهب الجماعي والترويع، خصوصاً في أعقاب إخلاء السجون من محكومي ومداني الحق العام فى قضايا جنائية بسبب فيروس كورونا، وفي إطار الإجراءات والاحترازات الحكومية لمجابهة الوباء، الذي اجتاح وأرعب العالم، مما فرض على السلطات السودانية تخفيف الازدحام في السجون. ومصدر المخاوف هو أن أفراد عصابات "النيغرز" الشهيرة يشكلون جزءاً مقدراً من المفرج عنهم، وقد يعاودون نشاطهم الإجرامي من جديد.
نذر العودة
وتعززت تلك المخاوف بوقوع هجوم جماعي بالسلاح الأبيض، عشية الإفراج عن السجناء، على المجمع الأشهر لبيع الذهب الخام والمشغول بقلب الخرطوم والمعروف بـ "عمارة الذهب"، الأمر الذي أثار الرعب، وزعزع استقرار المنطقة، وأدى إلى إغلاق السوق بالكامل، وتطويقه من قبل قوات الشرطة.
وقال شهود عيان، إن أكثر من 30 شخصاً يحملون السلاح الأبيض من سواطير وسكاكين، هاجموا السوق والمحلات بأسلوب وتكتيك عصابات "النيغرز" نفسهما. وناشدوا قوات الشرطة تأمين السوق، ووضع حد لتلك العصابات، التي توقفت عملياتها منذ فترة ليست بالقصيرة.
وفي هذا السياق، قال مصدر أمني لـ "اندبندنت عربية" إن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة السودانية، تفادياً لتفشي كورونا، هي التي عجلت بقرار إخلاء السجون، والإفراج عن سجناء الحق العام، البالغ عددهم 4217 سجيناً في ولاية الخرطوم، بينما تجري الترتيبات للإفراج عن نزلاء السجون في الولايات الأخرى.
وعزا الخطورة والمخاوف إلى أن عدداً من الذين شملهم الإفراج محكومون في قضايا جنائية، ويشكلون خليطاً من معتادي السرقة والإجرام والنهب، وبينهم الكثير من الأعضاء التنظيمات، وأشهرها وأكثرها ترويعاً وشهرة عصابات "النيغرز".
الحذر الواجب
ووصف المصدر تلك العصابات، بأنها تتشكل من يافعين ومراهقين، وتتورط في أعمال قتل ونهب وتخريب واضطرابات أمنية، وهي عصابات منظمة وعنيفة تستخدم كل أنواع الأسلحة، وتخصصت في السطو والنهب المسلح، وارتكبت العديد من جرائم القتل الوحشية، وغالباً ما تتحرك في مجموعات تحمل أسلحة بيضاء، كالسواطير والسكاكين، وأحياناً الأسلحة النارية. وعادة ما يستخدم عناصرها الشعر الملون والمستعار، ويرتدون سلاسل كبيرة وطويلة تتدلى حتى البطن.
ودعا قوات الشرطة إلى عدم التعويل على التعهدات التي وقعها المفرج عنهم، ومواصلة عملياتها في رصد وملاحقة أفراد تلك العصابات، لأن غياب الحزم وشعورهم بالأمان سيشجعهم على العودة إلى ارتكاب المزيد من الجرائم. وطالب بوضع خطة شاملة تقوم على دوريات متنوعة وتوزيعها داخل الأحياء والأسواق، وفق نظم الدوريات المعلومة، مع تفعيل دور المباحث في تعقبهم.
تعهدات وشروط
وأوضحت عائشة موسى، عضو مجلس السيادة، أن الإفراج عن سجناء الحق العام جاء بناء على العفو العام الصادر عن مجلس السيادة، ويمثل صفحة جديدة، وفرصة طيبة للمفرج عنهم لبدء حياة جديدة نظيفة، بعيداً عن الماضي والسلوك الإجرامي، وطالبتهم بعدم الإخلال بشروط الإفراج، المنصوص عليها في المادتين 209 و208 من قانون الإجراءات الجنائية، التي تقضي بإعادة سجنهم في حالة تجاوزها. وشددت على ضرورة التزام المفرج عنهم بالتعهدات والإقرارات التي وقعوها مع السلطات.
وبحسب الدكتورة تيسير عبدالرحيم، الأمينة العامة لمنظمة التكافل للبر والإحسان، المتابعة لإجراءات وخطوات الإفراج عن السجناء، فإن القرار قد ألزمهم بالخضوع لفحص كورونا الطبي مسبقاً، والتوقيع على تعهدات بعدم العودة إلى عالم الجريمة مرة أخرى، مع تدوين البيانات الكاملة عن أماكن سكنهم وأرقام هواتفهم وبصماتهم ومرجعياتهم.
تهديد أمني
أقرّت دائرة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم في العام الماضي بتحول ظاهرة عصابات "النيغرز" إلى تهديد أمني خطير في العاصمة، مما حدا بها إلى تنفيذ أكبر الحملات عليها، وتمت مهاجمة أفرادها داخل حديقة أم درمان الكبرى، إبان عيد الأضحى الماضي، أثناء مهاجمتهم زوار الحديقة والاعتداء على المحتفلين وسرقة مقتنياتهم.
وأكدت الدائرة قدرتها على التصدي لتلك العصابات، وكشفت عن خطة أجازها المجلس السيادي مؤخراً، تهدف لجمع الأسلحة البيضاء والنارية، وهي خطة مستمرة التنفيذ عبر الحملات اليومية، وتشمل الأسواق والمواقف، وتهدف إلى بسط الأمن.
تطور نوعي
ويرى القانوني مجاهد عثمان، أن عصابات المتفلتين، هي عبارة عن مجموعة أشخاص يجمع بين أفرادها غضب وحقد على المجتمع، بسبب حالة الفقر أو الإهمال أو التهميش الذي يعانون منه، بالإضافة إلى انفتاح الخرطوم على هجرة الوافدين، وتمركزهم في أطرافها، خصوصاً في مناطق جنوب الخرطوم والحاج يوسف ودار السلام وسوبا ومايو والسامراب والأزهري وغيرها من المناطق التي شهدت نشاطاً مكثفاً وجرائم متكررة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول عثمان إن هناك مجموعات جديدة انضمت حديثاً إلى تلك التي كانت موجودة منذ فترات زمنية متباعدة، لكن التطور النوعي الذي شهدته تلك العصابات، كان في انضمام بعض أبناء الأثرياء وميسوري الحال إليها، ومعظمهم شباب تتراوح أعمارهم بين 17 إلى 22 عاماً، ولديهم أُسر مقيمة بالخرطوم.
وأشار عثمان إلى أن العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي السوداني ليست كافية للردع، ولم تتضمن نصوصاً صريحة وواضحة، تخص جريمة التفلت والمتفلتين، ولم تحدد العقوبات التي يجب أن تصدرها المحاكم في مواجهتهم، مما يجعل محاكماتهم تتم بموجب مواد قانونية تتعلق بالإزعاج العام، وهي عقوبات أقصاها السجن شهرين، ليعودوا بعدها إلى مزاولة عملهم مجدداً في ترويع للمواطنين ونهب وسلب ممتلكاتهم.
الاستغلال السياسي
وفي أعقاب الإطاحة بالحكومة السابقة، وتمرد قوات العمليات بجهاز الأمن والاستخبارات السابق، اتهمت أطراف في الحكومة الانتقالية الحالية الجهاز بأنه يحتضن ويرعى تلك العصابات، ويعمل على رفع قدراتها التنظيمية من أجل توظيفها في العديد من أعماله ومهامه. كما أتهم الجهاز سابقاً، باستغلال تلك العصابات لغرض تحويل مسار التظاهرات السلمية إلى أعمال شغب ونهب، بما يبرر استخدام القوة ضد المتظاهرين، حيث كان الظهور الأول والأخطر لعصابات "النيغرز" في عام 2013، متزامناً مع الاحتجاجات الشعبية على نظام عمر البشير آنذاك، واتهمت المعارضة وقتها جهاز الأمن السابق باستخدام "النيغرز" لإضرام النيران في محطات الوقود، والاعتداء على المواطنين، ما أدى إلى بث الرعب وانحسار موجة الاحتجاجات، خوفاً من الانفلات الأمني الشامل.
كما أن جهاز الأمن قد أصدر في تلك الفترة، توجيهات حظر بموجبها نشر أخبار "النيغرز" للتعتيم على الانفلات الأمني في قلب العاصمة، وكان يتم تقديم كل من يستخدم تلك المفردة في وسائل الإعلام إلى المحاكمة، تحت طائلة نشر الأخبار الكاذبة.
ويحفظ التاريخ أنه في عام 2013، نفّذت سلطات سجن "كوبر" في بحري أحكاماً بالإعدام شنقاً لخمسة متهمين من عناصر تلك العصابات، بعد أن ثبت للمحكمة ارتكابهم جريمة نهب وقتل أحد المواطنين، بينما كان في طريقه من عمله إلى المنزل، ليقع في كمين "النيغرز"، وقد اعتدوا عليه بالسواطير ونهبوا هاتفه وتخلصوا من جثته في مقبرة بمنطقة قريبة من موقع الحادث.