ضاعف رحيل الفنان ورسام الكاريكاتير الفرنسي ألبيرت أوديرزو قبل أيام قليلة، حزن الفرنسيين الراهن، وكأنهم بحاجة إلى مزيدٍ من الخسارات والفقدان. فبرحيله غاب عنهم جزءٌ مهم من موروثهم الثقافي والشعبي لطالما شغلته سلسلة "أستريكس" أشهر أعمال الكتب الفرنسية البلجيكية المصورة، التي أبدع رسومها أوديرزو وكتبها رينيه غوسيني منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 1959، إلى أن وصلت إلى جميع دول العالم وترجمت إلى أكثر من 100 لغة.
وداعاً والد أستريكس
تناول الإعلام الفرنسي نبأ وفاة أوديرزو الإيطالي الأصل عن عمر يناهز 92 عاماً بالكثير من الحسرة، مؤكداً أن سبب وفاته نوبة قلبية بعيداً عن هجمات كوفيد 19. وتوقّفت القنوات التلفزيونية والصحف المحلية والدولية عند تاريخه الفني المزدحم بالإنجازات والجوائز. وجاءت العناوين العريضة متشابهة فيما بينها معلنةً رحيل الأب الثاني لشخصيات السلسلة في إشارة إلى أن غوسيني هو الأب الأول باعتباره المؤلف. كذلك قام العديد من الرسامين الفرنسيين والعالميين بتكريمه بطريقتهم الخاصة، إذ رسموا شخوصه الكرتونية يملؤها الأسى على فراق الأب مع إضافة عبارات مكلومة مثل "وداعاً والد أستريكس".
من جهةٍ أخرى وتعليقاً على خبر وفاته، أكدت آراء عديدة أن الدور الذي لعبه أوديرزو داخل المجتمع الفرنسي في العقود الأخيرة، يكاد يضاهي جهود علماء الاجتماع الفرنسيين في دراستهم للشرائح الاجتماعية وتصنيفهم لها. ذلك أن القرية التي جسّدتها سلسلة "أستريكس" والموجودة في بلاد الغال قديماً، فرنسا اليوم، هي نموذج مصغّر عن المجتمع الفرنسي كما هو عليه بالفعل. وكل الأحداث التي قدّمتها القصص واحدة تلوة الأخرى، وعاماً بعد آخر، تشجّع على الوحدة الوطنية في البلاد وتدعو إلى التعاضد الاجتماعي بين الفرنسيين بكافة شرائحهم واختلافاتهم.
ويبدو أن أوديرزو قد عاش تكريماً يليق بإنجازاته حتى قبل رحيله، حيث نال جوائز عديدة من الحكومة الفرنسية ودول أخرى. نذكر على سبيل المثال، جائزة التميز الفرنسية عام 2013، ووسام فارس جوقة الشرف عام 1985، وفارس وسام الأسد من هولندا 2007. مع العلم أنه امتلك إلى جانب الرسم، شغفاً حقيقياً برياضة السيارات مكّنه من الفوز مرتين بالبطولة الفرنسية "رالي ليون شاربونير".
وكان أوديرزو قد أعلن وهو في سن الخامسة والثمانين توقفه عن الرسم في الدورة الأربعين من المهرجان الدولي للرسوم المتحركة في مدينة انغوليم الفرنسية. لكن هذا لم يعنِ على الإطلاق، توقّف سلسلة "أستريكس" عن الصدور بنسخ وموضوعات جديدة، لأنه ورّث مشروعه الفني الكبير للأجيال الشابة من بعده.
"أستريكس" وجراح الحرب
أول ظهور لقصة أستريكس كان بشكل حلقات أسبوعية في مجلة Pilot. وظهر الألبوم الأول من السلسلة مؤلفاً من 48 صفحة في عام 1961 بعنوان "أستريكس الغالي" نسبةً إلى بلاد الغال. وحتى وفاة غوسيني في عام 1977، كان أوديرزو قد صمّم 24 ألبوماً، ليأخذ بعدها المهمة كاملة من كتابة ورسم مضيفاً 10 ألبومات أخرى على السلسلة التي وصلت لـ38 ألبوماً بـ380 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم.
وطيلة سنوات، نكاد نجزم أنه لم تخلُ مكتبة أي بيت في فرنسا من أحد نسخ السلسلة بحكاياتها المتتالية والمشوّقة، إن لم يكن جميعها. وأستريكس الذي يعني باللغة الإغريقية القديمة "النجم الصغير" هو شخصية درامية استثنائية، بطل تراجيدي أحبّه الفرنسيون كباراً وصغاراً، وسافروا معه في مغامراته التي بدأت في عام 50 قبل الميلاد، عندما احتل الرومان بلاد الغال بالكامل، عدا قرية صغيرة جداً ظلّ أهلها الخارقون الأقوياء يقاومون الاحتلال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكل محاولات أوديرزو في مقابلاته الصحافية نفي تسييس السلسلة وإسقاط أحداثها سياسياً على أرض الواقع باءت بالفشل. فليس من السهل تجاوز أن "أستريكس" جاءت في زمنٍ لم تكن فيه الذاكرة الفرنسية قد تعافَت من سنوات الحرب العالمية الثانية المريرة. وأن يهزم شخص بسيط يعيش في كوخٍ صغير محاط بالأشجار، الرومان بكل سطوتهم وجيوشهم القوية، معادلة تدعو للتفاؤل دون شك ووسيلة كفيلة بتطبيب جراح الفرنسيين. الأمر الذي دفع النقاد لقراءة السلسلة كتحية للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، خاصةً أن أوديرزو صوّر ممارسات الرومان بطريقة تشبه همجية النازية في اضطهادها وتعذيبها للبشرية.
صمّم أوديرزو شخصية أستريكس بطريقة كاريكاتورية ذات طابع كوميدي: جسدٌ ضخم وبنية قوية تليق بالمحاربين القدماء، وجه ضخم يتوسطه أنف كبير الحجم، شعره لونه برتقالي بضفيرتين، يرتدي بنطالاً فقط مخططاً باللونين الأبيض والأزرق، وعلى رأسه خوذة محاربين. ولعل هذا النمط الفكاهي في تصوير الشخصية، هو ما أسهم في جعله أقرب إلى الفرنسيين الذين تابعوا مغامراته الكثيرة متنقلاً بين كل بلاد العالم حيث يلتقي في قصصه المتسلسلة بشخصيات معروفة في التاريخ مثل كليوباترا، ويوليوس قيصر وهتلر.
وبسبب اختلاف وجهات النظر بين غوسيني وأوديرزو في تصوّر شخصية استريكس، تمّ ابتكار شخصية أوبيليكس كصديقٍ لأستريكس وبصفات جسدية مختلفة تماماً. وأوبيليكس، صغير الحجم، يفتقد للقوة البدنية ويتميّز بحكمته وذكائه. وهكذا، راح الصديقان يجولان العالم، ويقاومان أعداءهما من الرومان بفضل مشروب سحري يعطيهما قدرات خارقة وقد صنعه لهما كاهن القرية.
أنجز أوديرزو رسومات السلسلة بتقنية لا مثيل لها في عوالم القصص المصوّرة خاصةً إذا أخذنا بالحسبان عدم توافر تقنيات التصميم والرسم في فترة بدايات المشروع. ونلاحظ كيف مزج فيها بين الواقعي والمتخيل في استحضاره لأدقّ التفاصيل وأكثرها صعوبةً. أما فضاءات السلسلة وأمكنتها، فرسمها مثلما هي بالفعل، معالم أثرية تتشارك مع النص مهمة رواية التاريخ وسرد الأحداث المفترضة. لقد استطاع تجسيدها كما لو أنها لقطات متحركة من فيلم كرتوني طويل، الأمر الذي أوحى بتحويل إحدى قصص السلسلة وعنوانها "The mansions of the gods" إلى فيلم ثلاثي الأبعاد، بينما حوّلت كل السلسلة المصوّرة إلى سلسلة من الحلقات الكرتونية الممتعة.
"أستريكس" تمثّل الفرنسيين
لم يقتصر تأثير شخصية "أستريكس" لدى الفرنسيين على متابعتهم الدائمة لكتب السلسلة واقتنائهم لها، فقد تمّ تبني هذه الشخصية بشكلٍ رسمي لتمثل الفرنسيين في عدة مجالات، أهمها إطلاق فرنسا اسم أستريكس على أول قمر صناعي أطلقته عام 1965. كذلك ظهور الشخصية على قمة برج إيفل في عام 1992 أثناء انتخابات باريس للأولمبياد وقتها، وعلى العديد من منشورات وبوسترات الحدث. كما احتفلت الحكومة الفرنسية بالذكرى الـ60 للسلسلة من خلال إلصاق صور أستريكس وبقية أبطال العمل ضمن محطات مترو باريس.
ولطالما شجعت المدارس في فرنسا ولا تزال على قراءة جميع كتب السلسلة، وتستحضر العديد منها كأمثلة للقراءة والبحث بين الطلاب منذ عمر الست سنوات.
واليوم تستقطب "أستريكس بارك" في باريس الزوار والسياح من جميع أنحاء العالم، الذين يأتونها للتعرف إلى شخصياتها المصورة والكرتونية عن قرب، وللاستمتاع بتجارب ومغامرات خيالية من اللعب والترفيه.