Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

برامانتي بصحبة ليوناردو سنوات بداياته في خدمة آل سفورزا والفن الديني

تنافس بين فناني المرحلة للحصول على رضا أساطين المال والأعمال في عالم النهضة

سلم برامانتي في متحف الفاتيكان (أ ف ب)

ملخص

ولعل الأمور بين الاثنين بقيت على هذا المنوال حتى بعد بدء صداقتهما بـ10 أعوام وكانا قد باتا صديقين حميمين لدودين بصورة أو بأخرى حين تشاركا معاً في تشييد ورسم كنيسة سانتا ماريا ديلا غراتسيا، أولهما منكباً على رسم جداريته التي ستضحى على الدوام واحدة من أشهر اللوحات الدينية في التاريخ، "العشاء الأخير"، والثاني على تصميم المسبح وخلوة الكاتدرائية اللتين سينفق عليهما الوجيه الحاكم لودفيك الأفريقي.

رغم أن الفنان النهضوي الإيطالي برامانتي الذي تحول باكراً من الرسم إلى الهندسة العمرانية كان يكبر رفيقه في الإبداع ليوناردو دافنشي بأكثر قليلاً من ثماني سنوات، ارتبط الاثنان طوال حقبة لا بأس بها من حياتيهما بصداقة مرت بينهما بهدوء على رغم اختلاف بينهما في المزاج والموهبة، بل حتى نوع العمل الفني الذي يبرع فيه كل واحد منهما.

ومع ذلك لا يمكن القول عنهما إنهما كانا متكاملين متضامنين، بل على العكس كانت كثيراً ما تمر بينهما لحظات نفور لم يذكرها أي منهما كثيراً في كتاباته أو في أحاديثه على أي حال، بل إن التاريخ سيحفظ لحظات صفاء وتشاور متبادل جعلت من برامانتي واحداً من أقرب المقربين من صاحب "الموناليزا" وفي الأقل بحسب مؤرخ الفن الكبير جورجيو فازاري الذي عرفهما عن قرب وترك في كتابه الأشهر عن حياة وأعمال مبدعي عصر النهضة صفحات رائعة تخلد ذكرهما بالتوازي مع تخليد أعمالهما، ليوناردو في الرسم كما في صنوف فنية وعمرانية و"تقنية" عديدة، وبرامانتي في الهندسة العمرانية خصوصاً، مما يوحي بتكامل ما بينهما يمكننا أن نكتشف أنه كان في ظاهر الأمور وحسب. ورغم ذلك فلا شك أن برامانتي سيبقى دائماً في التاريخ النهضوي المبدع الوحيد الذي تحمل أخلاقيات صديقه وكان يتهاون معه بدوره هو الذي ما كان يتهاون مع أحد!

بدايات علاقة

ولئن كنا بطبيعة الأمور نعرف كل شيء عن ليوناردو دافنشي الأكثر شعبية وقوة حضور في تاريخ الفنون الأوروبية، قد يكون من الملائم هنا أن نلتفت صوب برامانتي لنتعرف إليه ولو من خلال ليوناردو. ولعل أول ما ينبغي أن نعرفه عنه، هو أن برامانتي الاسم الذي عرف به عبر التاريخ، لم يكن اسمه الأصلي، بل لقب أطلق عليه وهو الذي تقول لنا سيرته إن اسمه الحقيقي كان دوناتو باسكوتشيو دي أنطونيو وعرف بالاسم الذي اشتهر به، برامانتي، من قبل أن يتوقف عن ممارسة مهنة وهواية الرسم في عام 1482 حين انضم إلى بلاط آل سفورزا في ميلانو حيث كان قد سبقه ليوناردو إلى البلاط ليصبح تدريجاً الرسام الرسمي لبلاط تلك العائلة والمستشار الفني في خدمتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل شهرة برامانتي التي سبقته إلى البلاط وخصوصاً ما سبق أن أعلنه وعرف عنه من تحوله نهائياً إلى الهندسة العمرانية متخلياً عن فن الرسم الذي لم يعترف فقط بأنه لم يبرع فيه بما يكفيه لينافس عباقرة في ذلك المجال وعلى رأسهم ليوناردو نفسه ورافائيل ومايكل أنغلو بالطبع، بل أشار أيضاً أمام خلصائه إلى أنه لا يمكن لأحد أن "يخرج من دون أضرار" من أي تنافس مع ليوناردو في أي مجال من المجالات.

ويمكننا أن نتصور مبلغ رضا دافنشي عن مثل هذا القول متخلياً عن حذره تجاه مبدع يفوقه خبرة وحضوراً. ومن هنا وعلى عكس ما كانت عليه الأمور في كل مرة يطل فيها وافد جديد على بلاط آل سفورزا، فتح ليوناردو ذراعيه مستقبلاً هذا الوافد استقبالاً خاصاً كان البداية الحقيقية للصداقة التي ستقوم بينهما وتدوم طويلاً.

تعاون مثمر

حين التقى رامانتي ليوناردو في عام 1482، إذاً، كان في الـ38، بينما كان ليوناردو في الـ30. وكان آل سفورزا قد كلفوه بتشييد صالة العمادة التي لا تزال قائمة بروعتها حتى اليوم في كنيسة سانتا ماريا قرب سان ساتيرو التابعة لسلطتهم غير بعيد من دوقيتهم في ميلانو. ويقال إن ليوناردو وبعد أن بات مقرباً من العمراني الكبير، اعتاد في تلك المرحلة أن يزور الورشة ويعبر عن ملاحظات كان برامانتي يتقبلها بصدر رحب حتى وإن كان الأمر ينتهي به إلى عدم الأخذ بها بينما يكون الآخر قد نسيها أو لم يعد يهتم بها.

 

ولعل الأمور بين الاثنين قد بقيت على هذا المنوال حتى بعد بدء صداقتهما بـ10 أعوام وكانا قد باتا صديقين حميمين لدودين بشكل أو بآخر حين تشاركا معاً في تشييد ورسم كنيسة سانتا ماريا ديلا غراتسيا، أولهما منكباً على رسم جداريته التي ستضحى على الدوام واحدة من أشهر اللوحات الدينية في التاريخ، "العشاء الأخير"، التي ستعتاد ألا تبارح واجهة الأخبار حتى تعود إليها كما كانت الحال خلال الألعاب الأولمبية الأخيرة في العاصمة الفرنسية، والثاني على تصميم المسبح وخلوة الكاتدرائية اللتين سينفق عليهما الوجيه الحاكم لودفيك الأفريقي.

ويخبرنا فازاري إضافة إلى ذلك أن الاثنين كان يلتقيان معاً وبوفرة في سهرات قصر الدوق يشاركان في عدد من ألعاب التباري الأدبية حيث تكون الغلبة مرات لهذا ومرات لذاك. في تلك السهرات كان التنافس على ألعاب الذكاء والمهارات المعرفية بين الإثنين دائماً ما يتوج بما كان يعد في حينها أغلى الجوائز وأسماها: أي الحصول على عبارات ثناء وتشجيع يتكرم بها الدوق على هذا منهما أو ذاك!

ظهور العواطف الخفية

ولعل في إمكاننا التوقف في هذا السياق تحديداً عندما يخبرنا به فازاري نفسه حول ما فعله برامانتي من إقناع لبابا الفاتيكان جوليوس الثاني من أن يصدر تعليماته بأن يصار إلى تزيين قصر البلفيديري برسوم تأتي مستوحاة من مجموعة إفريزات كان قد حققها دافنشي وكانت محط إعجابه الشديد. لقد كان الفنانان على تنافسهما وصداقتهما وتناحرهما يسعيان معاً وكل منهما على حدة لنيل رضا أميركا المباشر وسيد الفاتيكان ومن ذلك بصورة خاصة في عام 1487 حين تعلق الأمر بما طلبه منهم الأمير من أن يتخيل كل منهما من ناحيته أفضل الطرق لتصميم مبنى علوي يتوج البرج الشامخ بما كان يسمى حينها "برج فانوسا"، لكن تنفيذ المشروع تأخر وبدا أنه قد بات منسياً، وفي الأقل بالنسبة إلى دافنشي بينما برامانتي لم ينس شيئاً هو الذي كان ماكراً كالثعلب، وفي الأقل بحسب تعبير فازاري نفسه! ومن هنا ومن دون أن يخطر أحداً بما يفعل وخفية بصورة خاصة عن صديقه اللدود توجه متسللاً إلى روما حيث ما لبث أن قدم لجوليوس الثاني تفاصيل مشروعه لبناء البرج بأسلوب كلاسيكي يمكننا أن نقول في نهاية الأمر لأنه لا يبعد كثيراً من الأساليب العمرانية التي ارتبط بها إبداع دافنشي نفسه.

 

ومهما يكن من أمر بدا لبرامانتي أنه سيثير إعجاب البابا انطلاقاً من كونه يعرف أن هذا الأخير كان دائماً ما يحبذ التوليف بين مبادئ العمارة القديمة من ناحية والذوق النهضوي من ناحية ثانية. فكان أن تحقق له ما توقع وكان من افتتان البابا بالتصميم أن عهد إليه ببناء كاتدرائية القديس بطرس التي تعد حتى الآن من أروع الصروح الكنسية في إيطاليا. غير أن الأقدار نفسها ستكون هي من جعل العمراني المكتهل في ذلك الحين يشعر بالتفوق على ليوناردو، لكن... لفترة قصيرة فحسب، إذ ما إن رسم برامانتي المخططات ميدانياً وأقام الأساسات حتى رحل عن عالمنا والمشروع لا يزال عند بداياته في مجال التنفيذ ودافنشي يعيش غيظاً شديدة. والأدهى من ذلك كله أن رحيل برامانتي لم يفد صديقه اللدود على الإطلاق إذ إن من ورث التنفيذ لم يكن سوى مايكل أنغلو الذي كان معادياً ومنافساً للصديقين معاً.

كذلك سيبقى لفترة طويلة عدواً شرساً يعمل ما في وسعه لتدمير رافائيل الذي كان محمياً من برامانتي نفسه! وبقي أن نذكر هنا أنه لئن كان جورجيو فازاري واحداً من قلة من مؤرخي فنون عصر النهضة توقعوا في رسم صورة تكاد تقترب من حدود الكاريكاتير في مجال الحياة الفنية في تلك الحقبة من عصر النهضة والتي اقترن فيها نمط العلاقات بين الفنانين بعضهم بعضاً متسللاً إلى داخل سلوكياتهما ونفسيتها من منطلق أن ذلك التنافس اللدود الذي قام بين اثنين من كبار بناة ذلك العصر النهضوي كان منطقياً، لا شك أن تلك الصورة التي انفرد بها فازاري، غابت عن معظم المؤلفات النهضوية المعاصرة لحياة تلك المرحلة. وإذا كان فازاري قد رسمها على الشكل الذي تحدثنا عنه أعلاه، لا ريب أن حداً لم يشكك في صحتها لمجرد أن ما من أحد كان مرتبطاً بالمبدعين نفسيها قدر ارتباطه هو بهما. لا سيما من منطلق أن الصورة التي رسمها في تلك العلاقة أتت متناسبة مع الصورة المعهودة لدافنشي بينما لم يشكك أحد في المقابل بما صور به برامانتي لمجرد أن هذا لم يكن معروفاً للعامة سوى باسمه الكبير المشع، من ثم تقبل الناس الحكاية من دون أدنى تشكيك فيها.

المزيد من ثقافة