لم يمض على زيارته السابقة إلى لبنان أربعة أشهر، حتى وجد الموفد الفرنسي الخاص المكلّف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر "سيدر" لدعم الاقتصاد اللبناني (المنعقد في باريس في أبريل/نيسان 2018) السفير بيار دوكان ضرورة للعودة مجدداً إلى بيروت بعدما تشكّلت الحكومة، وذلك بهدف القيام بجولة أفق مع الحكومة الجديدة والجهات المانحة، من أجل متابعة مستوى التقدم الذي بلغته الجهود المبذولة لوضع مقررات المؤتمر موضع التنفيذ، بما يتيح للبنان البدء بالاستفادة من الأموال المعقودة له والتي فاقت الـ 11 مليار دولار أميركي.
وفي وقت كان يعوّل فيه رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على هذه الزيارة، بخاصة بعدما أعطى مؤتمر "سيدر" ومقرراته أولوية قصوى في البيان الوزاري لحكومته، فإن الخلاصات التي خرج بها المسؤول الفرنسي لم تأتِ على مستوى الطموحات، لا سيما أن الجانب اللبناني الذي أعلن التزامه التام شروط المؤتمر الإصلاحية، لا تزال خطواته متعثرة وخجولة في تحقيق التقدم المطلوب. وبدلاً من مبادرة الحكومة إلى إطلاق إشارات جدية وعملية حيال برنامجها الإصلاحي، انطلقت شرارة مواجهة عنيفة بين مكوناتها السياسية على خلفية فتح ملفات فساد وتقاذف اتهامات تتصل بالحقبة السابقة وحساباتها المالية.
حصيلة المشاورات
وحرص دوكان في التصريحات التي أدلى بها في بيروت، على إعلان حصيلة مشاوراته ولقاءاته، قطعاً للطريق أمام أيّ تأويلات. وكانت أولى الخلاصات "أن ما اتُّفق عليه في 6 أبريل في باريس لا يزال قائماً"، وأن "هناك اتفاقاً من قبل القوى السياسية للسير قدماً في المجالات الآتية: المشاريع والتمويل والإصلاحات". واستدرك دوكان دقة الوضع بتأكيده أن "الحكومة لا تملك ترف الانتظار. عنوان البيان الوزاري هو إلى العمل، ويجب العمل بسرعة".
وخلافاً لما تردد عن تهديده بإلغاء أموال المشاريع في حال لم تُنفذ الإصلاحات خلال مهلة شهرين، كشف الموفد الفرنسي الخاص أن الأمور يجب أن تتمّ بسرعة خلال ثلاثة أو أربعة أشهر، إذ إن هناك في رأيه "أموراً كثيرة سهلة وموجودة في البيان الوزاري يمكن القيام بها في أمد قصير، وهي إشارات إيجابية إلى المجموعة الدولية، لكن يجب العمل بسرعة".
إجراءات فورية
ويرفض دوكان اعتبار كلامه بمثابة إنذار للحكومة اللبنانية، بل يضعه في خانة حضّ المسؤولين اللبنانيين على التحرك وعدم إضاعة الوقت، "فالاستثمارات هي من مصلحة لبنان. الأموال موجودة، ولكن ليس للتوزيع مجاناً".
أما بالنسبة إلى الإجراءات الفورية التي يمكن أن يباشر بها لبنان، فأشار دوكان إلى أهمية السير بالتوازي بين تطبيق المشاريع، والإصلاحات والتمويل الدولي. ورأى أنه يمكن البدء بسلة تعيينات تشمل ملء المراكز الشاغرة في الهيئات الناظمة للطاقة والاتصالات والطيران المدني، وتوفير الإمكانات اللازمة للمجلس الأعلى للخصخصة، بهدف التقدم على صعيد تحقيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن إقرار موازنة العام 2019 في نهاية مارس (آذار) أو أول أبريل.
وبات معلوماً أن أول موازنة أُقرّت بعد انقطاعٍ دام 12 سنة كانت موازنة العام 2018، فيما يعوّل لبنان على إقرار موازنة العام 2019، ما سيطلق إشارة إيجابية إلى الأسواق.
ولم يكشف وزير المال علي حسن خليل عن مضمون المشروع ولكن وزارته كانت التزمت في موازنة العام 2018 توصية مؤتمر "سيدر" بخفض سنوي تدريجي، يمتد على خمس سنوات، لعجز الموازنة بنسبة 1 في المئة. والواقع أن الدولة عجزت عن التزام هذا الخفض العام الماضي، ما يضعها اليوم أمام تحدي تنفيذه، الأمر الذي أعاد دوكان التذكير به عندما لفت إلى أن ثمة قرارات صعبة يجب اتخاذها، وهي واردة في البيان الوزاري، ومنها الإجراء المشار إليه والقاضي بخفض العجز بنحو 1 في المئة من قيمة الناتج المحلي، إضافة إلى إعادة النظر في حجم القطاع العام لجهة عمله وإنتاجه وموظفيه.
ويشكّل إصلاح قطاع الكهرباء أولوية مهمة على أجندة المسؤول الفرنسي، "فمن دون كهرباء يصعب الاستثمار" على حد تعبيره، كما أن الأولوية الثانية تكمن في مكافحة الفساد، وذلك من خلال إجراءات تقنية، مثل الانتقال إلى المكننة والإدارة الإلكترونية التي تقلّص نسبة الفساد.
قفص الاتهام
ولا يفوت المتحدث إلى دوكان ملاحظة سعة اطلاعه على الملف اللبناني، الأمر الذي يضعه في قفص الاتهام، بتهمة التدخل في الشؤون اللبنانية. لكن الواقع هو أن إلمامه بالتفاصيل الدقيقة يعود ليس فقط إلى الطابع التقني لمهمته، بل إلى كونه وبفعل هذا الطابع، مهندس المؤتمر الدولي، والمكلَّف تنفيذ مقرراته.
ويدرك دوكان الواقع اللبناني بكل خصوصياته، لكنه لا يخفي أسفه للوقت الضائع الذي يستهلكه اللبنانيون على خلافاتهم الداخلية. فالتحضير العملي لنتائج المؤتمر بدأ غداة انعقاده.
تسريع الخطوات
ويكشف مستشار رئيس الحكومة اللبناني للشؤون الاقتصادية نديم المنلا لـ "اندبندت عربية" أن الاتصالات مع الجانب الفرنسي لم تتوقف حتى في مرحلة الفراغ الفاصلة بين الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة، انطلاقاً من القناعة بضرورة جاهزية لبنان لوجستياً، حتى تكون عندما يحين الوقت وتؤلَّف الحكومة، مواكِبة لرزمة الإصلاحات المطلوبة، والتي هي في الأساس هدف لبناني في الدرجة الأولى قبل أن تكون التزاماً أمام المجتمع الدولي. فالإصلاحات المطلوبة هي في صلب أهداف الحكومة. وينقل المنلا عن دوكان تثمينه البيان الوزاري الذي يشكّل برأيه وثيقة أساسية تتضمن كل مندرجات "سيدر". لكن النقطة الأساس، التي طالب بها دوكان، وفق المنلا، هي أن على الحكومة الجديدة أن تسرّع خطواتها، ما من شأنه أن يرسل إشارات إيجابية إلى المجتمع الدولي، مفادها أن لبنان بدأ إجراءاته التنفيذية. وحدّد في هذا المجال، مشروع قانون الموازنة وتعيين الهيئات الناظمة ووضع خطة الكهرباء موضع التنفيذ، ومكننة الدولة، وإقرار مشروع قانون "استراتيجية مكافحة الفساد".
ولكن متى يبدأ العمل بهذه الخطوات في ظل المناخ السياسي السائد؟ يجيب المنلا أن "هذه الأمور موضوعة تدريجاً على طاولة مجلس الوزراء، بخاصة تلك التي تحتاج إلى إقرارها من قبل الحكومة. وسنشهد خطوات عملية في هذا الإطار هذا الأسبوع والأسبوع المقبل".
ولكن هل لمس أي استياء أو تذمر من الجانب الفرنسي نتيجة تأخر هذه الخطوات؟ يجيب المنلا أن "تعطيل مسار تأليف الحكومة أدى إلى هذا التأخير، ولهذا هناك تسريع للمسار اليوم. والأكيد أن المناخ العام جيد ولا إملاءات أو إنذارات بل ورشة عمل بدأت تشق طريقها نحو التنفيذ".
"لا التزامات"
أما دوكان فيؤكد في هذا السياق أن "لا التزامات على لبنان ولا على المانحين. هناك عقد، إذا كان أيّ فريق لا يريده، يقوم بما يراه مناسباً وما ورد في البيان الوزاري كتبته الحكومة، لا المانحون. وهو وُضِع ليسير لبنان في شكل أفضل".
وبالتالي، ستكون الحكومة أمام تحدي تضامنها في تطبيق بيانها الوزاري، على نحو يتيح لها الإفادة من الزخم الدولي الذي تترجمه بوضوح الحركة الدولية باتجاه بيروت، والتي تشير إلى أن الغرب لن يترك لبنان، شرط ألا يتركه المسؤولون فيه وأن يتعاملوا مع قضاياه بالجدية والإدراك لحجم الأزمة الاقتصادية والمالية التي يتخبط فيها.
يُذكر أن دوكان أجرى خلال وجوده في بيروت سلسلة لقاءات وصِفت بالتقنية مع كلّ من رئيس الحكومة سعد الحريري، ووزير المال علي حسن خليل، ووزير الاتصالات محمد شقير، ووزير البيئة فادي جريصاتي. كما عقد اجتماعاً في مقر السفارة الفرنسية في قصر الصنوبر مع سفراء الدول المانحة في "سيدر"، وممثلين عن المؤسسات الدولية في لبنان، من أجل متابعة تنفيذ مقررات المؤتمر.
وكان المؤتمر الذي عقد في باريس في 6 أبريل الماضي بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهدف جمع أموال لتعزيز اقتصاد واستقرار لبنان المهدد جراء الأزمات الإقليمية، تمكّن من جمع قروض وهبات بقيمة أكثر من 11 مليار دولار. إلا أنه وبنتيجة استقالة الحكومة عشية الانتخابات النيابية في مطلع مايو (أيار) الماضي، وتعطل جهود تأليف حكومة جديدة مدة تسعة أشهر، تعذّر على لبنان السير في الالتزامات التي تعهّد بها أمام المانحين، على الرغم من عقد جلسة تشريعية استثنائية في ظل حكومة مستقيلة لإبرام بعض مشاريع القوانين الملحة بالنسبة إلى المؤتمر.