أمكن الصين أن تتحكّم بإعلامها، فخرج عن سلطتها السياسية ما وجب خروجه إعلامياً تجاه فيروس كورونا، فكانت هي منبعه وانتشاره، وأضحت أوّل من سيطر عليه، أو حاصره. وبدل انهماكها في تعداد المصابين والوفيات عبر الإعلام، راحت تصنع المستشفيات وتطوق الوباء، بينما ذهب الإعلام اللبناني، كعادته، ليفسّر ويحلّل، ويغرق في بداية ظهور حالات في لبنان، في التحليل "السياسي" أكثر منه العلمي، باحثاً عمن ورّد الفيروس إلى لبنان، إيران أو إيطاليا أو ألمانيا أو الصين؟ وراحت كلّ محطة تفسّر وفق هواها السّياسي، ومعها انجرف الإعلام المفتوح لوسائل التواصل الاجتماعي، وهذا إن نمّ عن شيء، فعن غياب التقدير الإنساني والعلمي للوباء الزاحف في كل اتجاه، فاتكاً بأكثر الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً.
لقد شهد الإعلام العربي كذلك، تخبّطاً في الإحاطة بالوباء التنفسي الجارف، واعتمد في البدايات على التحليلات الآتية من إعلام الغرب، ومردّ ذلك غياب المساحات العلمية التحليلية عن الوسائل الإعلامية كافة، وإذا ما استثنينا الدوريات الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي المتضمنة دراسات علمية وتحليلية واسعة وعميقة، فإن الإعلام اليومي للكويت، ومثله في مختلف الدول العربية، يغيّب دور الصحافة العلمية، بل يفتقد لها تماماً.
اليوم يمكن القول إن الإعلام اللبناني أمسك بأطراف الخيط، وراح يستضيف أهل العلم والطبّ للوقوف على حقيقة كورونا ومستجداته ومآله، وانغمس نوعاً ما في "فلاشات" التوعية والتحذير، ودعوة الناس إلى التزام الحجر في بيوتهم، للإسهام في الحدّ من انتشار الفيروس تحت عنوان "خليك بالبيت".
الوباء المميت
كانت الدول وحروبها العسكرية والاقتصادية، فضلاً عن الكوارث الطبيعية، وحدها التي تصنع الخبر ليحتل صفحات الصحف الأولى والخبر الاستهلالي لشاشات التلفزة والإذاعات، ولاحقاً لوسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن حلّ الوباء المميت، فيروس كورونا، ليفرض نفسه ضيفاً ثقيلاً على الناس وعلى وسائل الإعلام، وبشكل خاص، المرئي الفضائي، الذي بات يجمع العالم بكلّيته في قرية كونية إعلامية، وصار ملاذ الناس في حصارها المفروض، في مواجهة هذا الفيروس، في انتظار العقار الرادع.
ربما تحافظ العديد من الدول الكبرى ودول الغرب فضلاً عن العديد من الدول العربية والإسلامية على ضبط إعلامها تجاه جائحة كورونا، للحدّ من الهلع المضطرب بين الناس، لكن ثمة تباعداً بين الناس في لبنان وبين التوجيه الإعلامي ووسائله التي كانت إلى ما بعد انتشار الوباء غارقة في التحليل السياسي والاقتصادي والبرامج الفنية وبعض البرامج العلميّة، التي كانت تتمحور فقط حول المواضيع الجنسية الجاذبة، ناهيك عن أن هذه الوسائل الإعلامية مصنّفة من حيث توجّهها بين حزبي وسياسي وطائفي، وحتى طبقي، ومعظم الناس حيالها منقسمة، بعداء أو انقياد أعميين، مثل انقسام الشارع هنا أو هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن وسائل الإعلام اللبنانية بأدائها اليومي تفرد مساحة للشؤون العلمية والطبية، وهذا ينسحب على وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية المفرّخة في لبنان بالمئات من دون حسيب أو رقيب، وها أن بعض كبريات المواقع الإعلامية في لبنان، ذات التاريخ الصحافي العريق، انغمست هي الأخرى، في الأخبار المثيرة، جنسية كانت أو طائفية أو سياسية، ولم تعر الإعلام العلمي أدنى اهتمام كان يمكن له أن يؤسس لثقافة إعلامية علمية متبادلة، بدل هذا التخبط الواقع حتى اليوم. إذ إن الإشاعات، حتى "التافهة" منها، تنتشر في لبنان انتشار النار في الهشيم، قبل تدخّل بعض الجهات الأمنية أو الإعلامية لتكذيبها أو للحدّ من تفاعلها، وهذا يدل على انعدام الثقافة الإعلامية الموجّهة وغياب الرقابة الضابطة أو المحاسبة الجادّة.
كشف استطلاع أجراه معهد إدلمان بين السادس والعاشر من مارس (آذار) أن أكثر من 90 في المئة من الإيطاليين واليابانيين والكوريين يطّلعون مرة واحدة في اليوم على الأقل على التطورات المرتبطة بالفيروس، وأكثر من نصفهم يقومون بذلك أكثر من مرة يومياً. لكن في لبنان، ثمّة فوضى إعلامية حتى اليوم، جعلت العديد من وزارات الإعلام والصّحة والتربية وغيرها أن تتوجه إلى العامّة وإلى وسائل الإعلام، أكثر من مرّة، تدعوها إلى عدم الأخذ بالاشاعات وإلى حصر أخبار مصابي الفيروس وضحاياه في لبنان، فقط بوزارة الإعلام وبمصدر وزارة الصحة، للحدّ من الهلع الذي يسهم في انتشاره الإعلام الفوضوي وغير المسؤول، لكن هذا لم يمنع الخلل القائم.
صدمة إعلامية
تقول الإعلامية اللبنانية ملاك مكّي، المتابعة لتعاطي الإعلام اللبناني والعربي مع فيروس كورونا، "لقد ألزم هذا الوباء المستجدّ وسائل الإعلام اللبنانية على الاهتمام بالعلوم واستضافة الأطباء المحلّلين والمتخصصين، بدلاً من الخطاب السياسي الذي انجرّت إليه في بداية انتشار الوباء للتحليل حول مصدره وليس بكيفيّة مواجهته، فضلاً عن التّعاطي مع المصابين والمرضى بمنطق اتهامي، وليس من رؤية إنسانية صحية، وهذا لم يحصل بأي من الدول العربية والغربية. نعم لقد سيّس الإعلام اللبناني الموضوع في بادئ الأمر قبل أن يتنبّه إلى مدى خطورته. لقد أحدث فيروس كورونا صدمة في إعلامنا العربي وفرض عليه المسؤولية التوعوية والإعلامية والإعلانية للحدّ من الخسائر، وهذا ما لم نعهده سابقاً".
وتضيف مكّي "لم تكن ثمة مساحة للبحوث العلميّة في وسائل الإعلام العربية، مع العلم أن البلاد غنيّة بجامعاتها وباحثيها وأبحاثها، وكان الإعلام يهمّشها تماماً بسبب انغماسه في السياسة الطوعيّة والتحليل الاقتصادي والرياضي والبرامج الفنية. ثمة حاجة ملحّة في لبنان والعالم العربي إلى متخصّصين في الإعلام العلمي، وإلى فرد مساحات يومية لمخاطبة الناس في آخر المستجدات العلمية والطبية، بدلاً من إلهائهم بالمعلومات السطحية وأخبار الفنّ والفنانين".