أصبح الذهب المورد الرئيسي للإيرادات العامة والنقد الأجنبي للسودان، بعد فقدان البلاد ثلاثة أرباع مواردها النفطية في العام 2011 عقب انفصال دولة جنوب السودان، والتي كانت تساهم بنسبة 50 في المئة من إيرادات خزينة الدولة.
وفي العقد الماضي، ازدهرت محلياً عمليات التنقيب العشوائي عن المعدن النفيس في أماكن متفرقة، والتي ينخرط فيها مواطنون بوسائل تعدين تقليدية، وبلغت تلك المواقع وفقاً لتقديرات رسمية حوالي 800 موقع، وتقول الحكومة إن الذهب متوفر في جميع ولايات البلاد الـ 18.
نسبة 90 في المئة من الإنتاج
ويساهم ذلك القطاع التقليدي الذي يعمل فيه نحو مليونا مواطن، بنسبة 90 في المئة من الإنتاج، والنسبة المتبقية تساهم فيها الشركات التي تستخدم التقنيات الحديثة، وشهد العام الماضي انخفاضاً في حجم الذهب المنتج إذ بلغ 93 طناً، مقابل 105 أطنان في العام 2017.
لكن لا تبدو مسألة انخفاض الإنتاج المعضلة الرئيسية التي تواجه ذلك القطاع الحيوي، فعمليات التهريب تعصف به، نسبة لعدد من السياسات المحلية، ووفق الحكومة فإن ما جرى تصديره عبر القنوات الرسمية العام الماضي، لا يتعدى 22 طناً من جملة 93 طناً، بينما صدّرت الدولة في 2017 حوالي 30 طناً فقط من حجم إنتاج بلغ 105 أطنان.
مورد رئيسي
احتل السودان في العام 2017 المرتبة الثالثة في أفريقيا من حيث إنتاج الذهب، بعد دولتي جنوب إفريقيا وغانا، وتتوقّع الحكومة أن تحتلّ المرتبة الأولى في أفريقيا في معدّلات الإنتاج بنهاية العام الحالي.
ولتحقيق ذلك تجري الحكومة عدداً من المسوحات الأرضية، لاكتشاف مواقع جديدة، وأخيراً، أعلنت وزارة النفط والمعادن عن اكتشاف أكبر منجم ذهب في البلاد بطاقة إنتاجية متوقعة بنحو 7 أطنان سنوياً.
وتبلغ جملة عائدات البلاد من الصادرات غير البترولية كافة ما يفوق ستة مليارات دولار، يوفر الذهب منها ما نسبته 50 في المئة، بينما توفر الصادرات الأخرى مثل الصمغ العربي والمنتجات الزراعية والحيوانية النصف الآخر.
دوافع التهريب
أنهت الحكومة في ديسمبر (كانون أول) الماضي احتكارها لتصدير الذهب الذي دام ست سنوات، ذلك الاحتكار الذي ساهم وفق مراقبين في انتشار عمليات التهريب، التي ساعدت في ازدهارها حدود البلاد الشاسعة وصعوبة مراقبتها، إلى جانب عدم قدرة الحكومة على حصر ما ينتجه المعدنان التقليديان بشكل دقيق، إذ كانت تشتري الحكومة الذهب من المنتجين بسعر الدولار الرسمي الذي يبلغ 47 جنيهاً، بينما يبلغ سعره في السوق الموازية "السوداء" 75 جنيهاً، ويعد ذلك الفرق عاملاً مهماً في تجنب المنتجين التصدير عبر القنوات الرسمية.
ومع انتعاش عمليات التنقيب في البلاد إلا أنه لا توجد بورصة رسمية مختصة بالذهب، على الرغم من إنشاء الحكومة في أكتوبر (تشرين أول) الماضي صندوقاً للتداول والاستثمار في الذهب تحت مسمى "بريق"، وقالت آنذاك إن الصندوق سيعمل في الـ 12 شهراً المقبلة بصيغة المضاربة في شراء وبيع الذهب.
وأنشئ الصندوق بحد أدنى مليار جنيه في بداية نشاطه، لتمويل عمليات شراء 24 طناً من الذهب، إلا أنّ ذلك الصندوق لم يجد حظه من النجاح نسبة لعدم قدرة الدولة على توفير النقد الأجنبي للأشخاص والشركات الراغبة في الاكتتاب فيه.
وعلى الرغم من فك احتكار التصدير، إلا أنّ ندرة النقد الأجنبي في البلاد، وفروقات سعر الدولار الكبيرة بين السوق الموازية والأسعار الرسمية، كانت أهم عوامل استمرار المنتجين في التهريب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قوانين الطوارئ
ونتيجة للاحتجاجات التي يشهدها السودان منذ ديسمبر الماضي، أعلن الرئيس عمر البشير في فبراير (شباط) الماضي، فرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة عام، وأصدر بعدها خمسة أوامر طوارئ، يتعلق بعضها بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي والذهب والمشتقات البترولية.
وحظرت تلك الأوامر حمل وحيازة ما يزيد عن 150 غراماً من الذهب المشغول لأي مسافر خارج السودان عبر جميع المنافذ، كما منعت حمل أو حيازة أو تخزين أي كمية من الذهب الخام أيّا كان شكله عند الأشخاص غير المرخّص لهم بالتصنيع أو التصدير.
لكن مراقبين محليين يقللون من نجاعة قوانين الطوارئ في إنهاء عمليات التهريب، إذ يلجأ معظم المنتجين التقليديين إلى تخزين الذهب في مناطق نائية قريبة من مواقع إنتاجه، ولا يعرف حجم المخزون الحقيقي منه.
الطوارئ... وتهريب الذهب
ويقول الخبير الاقتصادي محمد الناير إنّ "تقارير تشير إلى أنّ السودان ينتج ما يفوق الـ 200 طن من الذهب، التي لا يعرف حتى الآن حجم عائداتها الحقيقية والطرق التي تهرّب بها".
ويضيف "ربما يساهم أمر الطوارئ في الحدّ من عمليات التهريب لكنّه لن يوقفها، إلا إذا تمكّنت الحكومة من إنشاء بورصة للذهب، وعملت عبر سياسات أخرى لمعالجة قيمة الدولار بين السعر الرسمي والسوق الموازية، إذ يدفع فرق السعر المنتجين إلى مواصلة التهريب".
مشكلات تنظيم عمليات التنقيب
وتواجه الشركات التي تعمل في قطاع إنتاج الذهب عدداً من المشكلات المرتبطة بسياسات الدولة، ويقول أحد العاملين بتلك الشركات فضّل عدم ذكر اسمه إنّ "الدولة تمنح حق التنقيب وفق اتفاقات قسمة إنتاج بينها وبين الشركة، وأعتبر ذلك أحد أهم أسباب ابتعاد المستثمرين".
كما تواجه المستثمرين في الذهب، مشكلة تحويل عائدات المالية إلى الخارج عبر الدولار، إذ يجد غالبيتهم صعوبة في ذلك نسبة لعدم توفر النقد الأجنبي، وصعوبة توفير المواد البترولية أخيراً للآليات العاملة في التنقيب.
إلا أنّ أكبر تلك العقبات التي تواجه الشركات العاملة في الذهب هي الاحتكاكات التي تقع بينها وبين المعدنين الأهليين والمواطنين في كثير من الأحيان، إذ تمنح الحكومة الشركات مناطق للتعدين يعمل بها معدنيون تقليديون، أو تعطيهم حق التنقيب في أراض تعود ملكيتها إلى مواطنين، وعلى الرغم من أنّ الحكومة تعمل على تسوية تلك النزاعات، بيد أنّها تشكّل هاجساً كبيراً للراغبين في الاستثمار.
سياسات جديدة
وقد تشهد الفترة المقبلة، خصوصاً بعد حل الرئيس السوداني للحكومة، وتسميته محمد طاهر ايلا رئيساً للوزراء، إقرار سياسات جديدة للحدّ من تدهور قيمة العملة الوطنية، وتقليل عمليات تهريب الذهب، التي يشير مراقبون إلى أنّ أسبابها الرئيسية هي السياسات الخاطئة للدولة تجاه ذلك القطاع المهم.
ويعاني السودان من عجز في الميزان التجاري، وشحاً في الأوراق النقدية منذ عام، إضافة إلى أزمة وقود متكررة، أضرّت بقطاع النقل والتصنيع، وارتفع الدين الخارجي للبلاد إلى نحو 56 مليار دولار في نهاية 2018، مقابل نحو 52 مليار دولار في نهاية 2017، وفقاً لبيانات رسمية.