"زَبَدٌ أحمر" (نوفل / هاشيت أنطوان) هي الرواية الثالثة، بعد "ذبائح ملوّنة" و"خلف العتمة"، للروائي اللبناني سليم اللوزي. وفيها يتناول الجلجلة التي يكون على بعض الناس خوضها في سعيهم إلى تغيير واقعهم وتحقيق أحلامهم، وما يرافق هذه العملية من تنازعٍ بين الإرادة والقدر، وتجاذبٍ بين الجبر والاختيار، وما يترتّب عليها من ثمن كبير يكون عليهم أن يدفعوه، سواءٌ أبلغوا برّ الأمان أم لم يبلغوا. الناس المعنيّون بهذا الاستهلال هم مجموعة من الفقراء، والطامحين، والمغامرين المتحدّرين من وسط ريفي في شمال لبنان. ويتوزّعون على: عائلة مؤلّفة من عشرة أفراد تريد الفرار من الفقر، ثلاثة شبّان أصدقاء يريدون مطاردة أحلامهم، وأختين اثنتين توأمين تترجّحان بين الفرار والمطاردة. الواقع هو الشمالي العكّارـ طرابلسي بما فيه من فقر، وجوع، ومنظومة قيم ريفية. والحلم هو إيطاليا (ما قبل وباء كورونا) وما يثير في النفوس المحرومة من أوهام. والجلجلة هي السفر برًاً وجوّاً وبحراً، بطريقة غير مشروعة، بإدارة عصابة متعدّدة الجنسيات، تتوخّى التجارة، بمعزل عمّا يترتّب على عملها من نتائج وخيمة. وهي تجارة استشرت مؤخّراً لا سيّما بعد اندلاع الحرب السورية، وتمخّضت عن عشرات الضحايا البريئة، من مختلف الأعمار.
نعت ومنعوت
بالدخول إلى الرواية من بابها، نشير إلى أنّ "زبد أحمر" عنوانٌ مؤلّفٌ من كلمتين اثنتين، هما، في الاصطلاح النحوي، نعتٌ ومنعوت. أمّا المنعوت "زبد" فَيُحيل مباشرةً على الآية القرآنية الكريمة: "وأمّا الزَّبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، أي أنّه يعني الجُفاء واللّاشيء. وأمّا النعت "أحمر" فَيُحيل في بعض معانيه إلى لون الدماء. وبذلك، يعبِّر العنوان عن عبثيّة الحياة ومجّانيّة المغامرة، ويشكّل مدخلاً قاتماً إلى الرواية. وبالولوج إلى المتن والتوغّل في أدغاله الكثيفة، نشير إلى أنّنا إزاء ثلاث مجموعات من الشخوص؛ العائلة العَشْرية، الشبّان الثلاثة، والأختان الاثنتان. ولكلٍّ من هذه المجموعات منطلقها ومسارها ومصيرها. وهي تختلف نسبيّاً في ما بينها في المنطلق والمصير، وتتَّفق في المسار. بكلمة أخرى، يكمن الاختلاف النسبي بين المجموعات الثلاث في الواقع والحلم، ويكمن الاتفاق في طريقة الانتقال من الأوّل إلى الثاني.
المجموعة الأولى من الشخوص تُمثِّلها عائلة أبي حسن الرفاعي المؤلّفة من أبٍ، وأمٍّ، وخمس بنات، وثلاثة صبيان. وهي عائلة فقيرة؛ يقوم الأب فيها بعمل متقطّع لدى البلدية، وتقوم الأمّ بأعمال الخياطة والرثي والتطريز حين تتاح لها الفرصة، ويعمل ابنها البكر حسن في أرض أحد الملاّكين، ما يجعل أفرادها يجوعون حيناً، ويتوزّعون الطعام المتوفّر حصصاً في ما بينهم حيناً آخر. في مواجهة هذا الواقع القاسي، يقرّر الأب السفر مع أسرته إلى إيطاليا، وسط ممانعة الأمّ التي ما تلبث أن ترضخ في النهاية بعد تهديده إيّاها بالزواج من إيطالية، ووسط ممانعة مكتومة من البنت الكبرى سمر التي حرمها الأب من فرصة الدراسة الجامعية. وبذلك، نكون إزاء عائلة أبوية تتناسب مع منظومة القيم التي تحكم المجتمع الشرقي الريفي. الكلمة الفصل فيها للرجل الأب حتّى وإن كان على خطأ. والمرأة الأمّ هي في موضع التابع الخاضع له حتّى وإن عارضت أحياناً. والبنت لا تجرؤ على المطالبة بحقّها في التعلّم. وتأتي الأحداث لتثبت خطيئة الأب بحقّ نفسه وأسرته وندمه حين لات مندم؛ فيموت ابنه الصغير خضر عطشاً وجوعاً في عُرْضِ البحر، ويتمّ رمي ابنه الآخر هلال في الماء عن طريق الخطأ، ويحاول هو الانتحار قبل إنقاذه في اللحظة الأخيرة.
في مواجهة المصائب، تستيقظ أمومة الأمّ الخائفة على أولادها، تتحرّر من خوفها منه، تتحلّل من أدبيّات المجتمع الأبوي، وتقوم بشتمه على مسمع من جميع الركّاب، وسط صمتٍ مُطْبَقٍ منه، يعبّر عن يأسه، وإحساسه بالذنب، وندمه حين لا ينفع الندم، في إشارة روائية واضحة إلى أنّ غريزة الأمومة الطبيعية أقوى بكثير من المواضعات الأبوية المصطنعة. وتبلغ هذه الغريزة ذروتها مع إصرار الأم على الاحتفاظ بجثّة ابنها ورفضها رميها في البحر، على الرغم ما يترتّب على ذلك من مضاعفات خطيرة. وتكون الطّامّة الكبرى حين يصطدم المركب الذي فر ربّانه، تحت جنح الظلام، بصخر عائم، يُؤدّي إلى غرقه، وموت العائلة باستثناء سمر البنت الكبرى التي تتشبّث بقطعة خشب كبيرة، وحسن الابن البكر الذي يتشبّث بجثّة أبيه العائمة. وهكذا، استطاع الأب الذي عجز عن إنقاذ أسرته، في الحياة، من براثن الجوع والفقر والغرق، أن يُنقذ أحد أبنائه بعد الموت. وهنا، نكون إزاء مفارقة تعكس سخرية القدر، وعبثيّة الحياة أحياناً.
المجموعة الثانية من الشخوص يمثِّلها الثلاثي: ناجي، صبحي، وباجيو. وهم أصدقاء منذ مقاعد الدراسة. لكلٍّ منهم واقعه وحلمه اللذان يختلفان عن الآخرين؛ فناجي، الطالب الجامعي وابن عامل البلدية الفقير، يعشق عارضة الأزياء الإيطالية مونيكا بيلوتشي، ويعلّق صورها على الجانب الداخلي من باب خزانته، ويحلم بالسفر إلى إيطاليا للّقاء بها. هذا الحلم، المستند إلى استيهام جنسي وأوهام مراهقة مكبوتة، يغذّيه في نفسه صديقه باجيو، فيقوم بمساعدة السّمسار مخايل المنخرط في الشبكة برهن بيت أبيه لِمُرابٍ طرابلسي، بعد سرقة وثيقة البيت الرسمية، مُطَبِّقاً مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة. وباجيو، النادل في مقهى طرابلسي، أُطلِق عليه اللقب تيمُّناً ببطل رياضي إيطالي، يعشق كرة القدم الإيطالي، ويحلم بالسفر للّقاء ببطله، والانضمام إلى فريقه. وهنا، يستند الحلم أيضاً إلى مراهَقة مقموعة. ولعلّه يشكّل تعويضاً عن التأتأة التي يعاني منها، فيكون انطلاقه الرياضي بديلاً لتعثُّره النطقي. وصبحي، ابن راعي الغنم، العامل في صناعة المعجّنات، يحلم بالسفر إلى إيطاليا للتعرّف إلى فنون هذه الصناعة لا سيّما صناعة البيتزا. ولعلّ حلم هذا الأخير يستند إلى أسس واقعية، ويكتسب مشروعية أكثر من حلمي صديقيه الآخرين.
مطاردة الأحلام
في الطريق إلى مطاردة أحلامهم، يروي كلٌّ من الأصدقاء الثلاثة مشاهداته وانطباعاته البرية من طرابلس إلى بيروت، والجويّة من بيروت إلى تونس، والبحرية من تونس إلى عُرْض البحر، الأمر الذي يفعله سائر الشخوص، في المجموعات الثلاث. وهي مشاهدات وانطباعات يختلط فيها ويتعاقب الجميل والطريف والمخيف والمرعب. وتتمخّض مسارات الأصدقاء الثلاثة عن مصير مختلف لكلٍّ منهم عن الآخر، فبعد معاناة الجوع والعطش والخوف والرعب على سطح المركب، يعاني باجيو "متلازمة كوتارد"، فيتوهّم أنّه ميت، ويتصرّف مع الآخرين على هذا الأساس، وينتهي به الأمر غريقًا في البحر، بعد غرق المركب. ويرمي ناجي بنفسه في الماء مُتشبّثاً ببرميل وقودٍ فارغ، يساعده على الوصول إلى الشاطئ بشقِّ النفس، حيث يُعثَر عليه، ويتمُّ تسليمه للشرطة والإسعاف. وصبحي تُكسر رجله خلال سقوط سقف غرفة القيادة في المركب عليه، ويغيب عن الوعي إلى أن توقظه صرخات وصفعات مجهولة من غيبوبته، ويتمّ إنقاذه واقتياده إلى مقرٍّ للشرطة للتحقيق معه.
المجموعة الثالثة والأخيرة من الشخوص تمثِّلها الأختان التوأمان خلود وخولة، التلميذتان في إحدى المدارس الثانوية، اللتان تتشابهان إلى حدِّ التكامل في ميول معيّنة، وتختلفان إلى حدِّ التنافر في أخرى؛ فكلتاهما تعانيان كبتاً معيَّناً هو نتاج البيئة التي يعيشان فيها، وتحلمان بتغيير واقعهما وتحقيق أحلامهما. غير أنّ لكلٍّ منهما ميولها الجنسية المختلفة عن الأخرى. خلود تعيش استيهامات جنسية مستوحاة من الأفلام، وتحلم بالارتباط بشاب إيطالي ممّن يحرّكون فيها تلك الاستيهامات. وهي، على الرُّغم من ذلك، تميل إلى التحفّظ، وتخشى الانسلاخ عن محيطها. في المقابل، تُشكّل خولة نموذجاً للتمرُّد على المحيط والعادات والتقاليد؛ فترى في القرية حبساً كبيراً، وفي البيت جحراً صغيراً، وفي تقبيل الرجال شيئاً مقزّزاً. وتقوم بسرقة الأموال التي اؤتمن عليها أخوها خالد، دون أن يرمش لها جفن. ولا تتورّع عن التلميح إلى ميولها المثلية في لبنان، والتّصريح بها لاحقاً في عُرْض البحر حين تصبح بمنأى عن رقابة المجتمع الأبوي. تحلُم بالسفر إلى إيطاليا لتعيش حريّتها الجسدية والارتباط بفتاة إيطالية. تمتلك قدرةً على التأثير في أختها وخياراتها، فحين تُوضَع هذه الأخيرة بين خياري الارتباط بمحيطها والارتباط بأختها، تؤثر الخيار الثاني. وهو ارتباط يتحقّق في ذروة مواجهة الخطر، فحين يغرق المركب، تتّحدان معاً، وتسقطان على الصخر العائم ليتمّ العثور عليهما لاحقاً وإنقاذهما، حتّى إذا ما استفادت خولة من طلب اللجوء السياسي الذي تقدّمه لها الشرطية بعد تصريحها بمثليّتها، فإنّ هذه الاستفادة تشمل خلود، بدورها. ولعلّ هذه المجموعة من الشخوص هي الأكثر جرأة في التمرّد على واقعها، والأقل مشروعية في حلمها، دون سائر المجموعات.
"زبد أحمر" رواية ضحايا الواقع، من جهة، وضحايا الأحلام، من جهة ثانية، وضحايا عصابات تهريب الأشخاص بحراً، من جهة ثالثة، في لحظة تاريخية حرجة، تتفكّك فيها أوصال الدول، وتتحلّل فيها، تلك القائمة، من التزاماتها. هذه المنطلقات والمسارات والمصائر يعبّر عنها سليم اللوزي بخطاب روائيٍّ حديث، فيجمع بين جِدّة الحكاية وحداثة الخطاب؛ يضع روايته في ستّة فصول، وخمس وثمانين وحدة سردية، بعدد يتراوح بين تسع وحدات سردية للفصل الواحد، في الحدِّ الأدنى، وعشرين وحدة سردية، في الحدِّ الأقصى. وهذه الوحدات يقوم برويها ستّة شخوص، بعدد يتراوح بين اثنتي عشرة وحدة سردية للشخص الواحد، في الحدّ الأدنى، وسبع عشرة وحدة سردية، في الحدّ الأقصى. أي أنّنا إزاء ستّة رواة مشاركين، يتولّون عملية الروي، بالتناوب والتعاقب، وفق وتائر معيّنة يحدّدها الكاتب، وفق منظوره الروائي، فيروي كلٌّ من هؤلاء حكايته الخاصّة ورؤيته، على دفعات / وحدات متقطّعة، يتراوح طول الواحدة منها بين فقرة واحدة، في الحدّ الأدنى، وتسع صفحات، في الحدّ الأقصى. وعندما يتناول الراوي ما يتعدّى حكايته الشخصية إلى حكايات الآخرين، يقوم حينها بوظيفة الراوي العليم، أي يجمع بين وظيفتي الراوي المشارك والراوي العليم، في آن.
تتنوّع العلاقات بين الوحدات المختلفة، وتتراوح بين التعاقب والتداخل والتزامن والتقاطع والتكامل، من حيث المضمون. أمّا من حيث الشكل، فتنتظمها علاقة واحدة هي التعاقب. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ بعض الوحدات هي من قبيل لزوم ما لا يلزم، لا تضيف شيئاً إلى الرواية، ويمكن الاستغناء عنها دون أن يختل الخطاب الروائي العام.
بهذه التقنيات وبغيرها، استطاع سليم اللوزي أن يُضيء موضوعة جديدة طارئة على الرواية العربية، بفعل حصولها في اللحظة التاريخية الحرجة التي نعيش، وهي لحظة تمخّضت عن "الربيع العربي"، حيث اضطرّ الآلاف لركوب البحر هربًا من الأنظمة الاستبدادية، ودفع كثيرون منهم الثمن، مع فارق أنّ شخوص الرواية ليسوا من النازحين عن بلدانهم، بل هم من الهاربين من واقعهم، وهذا لا يغيّر في حقيقة أنّ موضوعة التهريب بحراً هي موضوعة جديدة، بامتياز. والمؤسف أنّ هذه الموضوعة، كما تطرحها الرواية، تنجلي عن نصرٍ مؤزّر للقدر على الإرادة وللجبر على الاختيار، وتؤكّد أنّ الرياح تجري بما لا تشتهي مراكب الحالمين.