يلتقي سكان صعيد مصر مع سكان القرن الأفريقي بعلاقات موغلة في القدم، تكشفها ومضات تاريخية لا تغيب عن الراصد، سواءً كان خبيراً في التاريخ القديم، أو متعمقاً في علم الجينات، أو يجمع ما حوته كتب الأنساب والسيَرِ. وفي حين كان الصعيد أحد المداخل الرئيسة للهجرات البشرية الآتية من الشرق الأوسط، والشمال الأفريقي إلى الشرق الأفريقي، فقد كان القرن الأفريقي رافداً بشرياً مهماً لمصر على مدى فترات زمنية طويلة، وذلك ما يجعل المرويات التراثية لسكان الإقليمين، تعجّ بمئات الأساطير والقصص حول الأصول المشتركة بين السكان فيهما، بدءًا باعتبار المصريين القدماء بقاعاً من القرن الأفريقي، أرضاً للآلهة والأجداد.
العلاقات التاريخية القديمة في ضوء الهجرات
يشير الباحث محمد طاهر الزيلعي من جيبوتي، والمهتم بالشأن التاريخي في منطقة القرن الأفريقي، إلى الروابط التاريخية القديمة بين سكان مصر والقرن الأفريقي، معتبراً تلك العلاقات شديدة التداخل. ويقول "على الرغم من ندرة ما نجده عن تلك العلاقات التاريخية بين سكان مصر والصعيد تحديداً، وبين سكان القرن الأفريقي، فإنّ الدلالات التي تحملها نتائج المسوح الجينية للمورث الذكري E1b1b1 لسكان الإقليمين، بنسبة 46 في المئة في مصر وفوق 75 في المئة في القرن الأفريقي، تشير إلى سلف واحد مشترك، لكن شدّة التداخل الذي ذكرناه، يكاد يجعل من الصعب تحديد اتجاه الهجرات البشرية بين المنطقتين، إن كانت مع انسياب نهر النيل من الجنوب إلى الشمال، أو إنها كانت معاكسة له أي من الشمال إلى الجنوب".
ويؤكد أحمد عبد النبي الدعباسي القصاصي، الباحث في علم الأنساب من مصر، ما ذكره الزيلعي، متحدثاً عن الهجرات البشرية التي انتقلت ما بين المنطقتين "صعيد مصر له علاقات طويلة بالصومال، فعاصمة مصر في العصور القديمة طيبة أو الأقصر، ومنها انطلقت الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونت (الصومال الحالي)، لذا فالعلاقات تؤكد أن مصر امتداد للقرن الأفريقي، تبعاً لانسياب مياه النيل".
القرن الأفريقي والصعيد بعد انتشار الإسلام
لم تكن الهجرات العربية إلى مصر والقرن الأفريقي مقتصرة على فترة انتشار الإسلام وإن زادت مع حركة الفتوحات الإسلامية وبروز دول إسلامية كبرى من انتظام واتساع العلاقات التجارية بين شبه الجزيرة العربية والساحل الأفريقي المقابل. فقد شهد القرن الأفريقي وصعيد مصر هجرات سبقت ظهور الإسلام، فنزل السبئيون والحميريون إلى القرن الأفريقي وهاجرت قبائل لخم وجذام إلى مصر، إلّا أنّ انتشار الإسلام خلق حالة من الوحدة المعنوية بين المكونات البشرية على امتداد شمال شرقي أفريقيا، ما سهّل حركة عناصرها ضمن تلك المساحة الجغرافية الكبيرة، وساعد في سكن قبائل وعائلات عربية كبيرة فيها، تجتمع في سلاسل نسبها بسلف أكبر واحد، يضمن تواصلها المعنوي وإن بعدت المسافات.
ويضيف الزيلعي "لقد نزل عددٌ كبيرٌ من القبائل العربية في المنطقة ما بين القرن الأفريقي وصعيد مصر، إمّا من خلال هجرات منفصلة لفروعها المختلفة شمالاً عبر الشام باتجاه مصر، أو جنوباً عبر اليمن باتجاه القرن الأفريقي، أو حدثت هجرات ضمن تلك المنطقة من مصر إلى القرن أو العكس، وممّا يؤكد ذلك الحضور العظيم لأبناء منطقة القرن الأفريقي وأدوارهم الكبيرة في تاريخها، ومن دلائله تخصيص رواقين لأهل المنطقة دون غيرهم في الأزهر الشريف، كرواق الزيالعة ورواق الجبرت".
في حين يؤكد الشريف هاني بن يوسف الإسحاقي من الصومال ذلك، متحدثاً عن صلات القرابة بين قبائل كبيرة لها وجود ملموس في كل من جيبوتي وإثيوبيا والصومال. ويقول "نجد قبائل كبيرة في القرن الأفريقي والصعيد تجتمع عند جدٍّ جامعٍ واحد. فعلى سبيل المثال، يلتقي الإسحاقيون في شمال بلاد الصومال الطبيعي، بإخوتهم الجعافرة في صعيد مصر عند جدّ مشترك هو الإمام أبو الحسن علي الهادي العسكري، ابن محمد الجواد". ويشير إلى القرابة التي تجمع بين عائلات وعشائر مصرية كبيرة بنظيرتها في إريتريا، وتحديداً ضمن قومية "ساهو" العريقة، نظراً إلى انتمائها للخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شخصيات تاريخية يجمعها سلف مشترك
يقول القصاصي "جاء في كتاب نقوش ووثائق عربية حول تاريخ الصومال للمؤلف الإيطالي إنريكو شيروللّي، الذي طُبع في روما عام 1926 في إيطاليا، أن مقديشو في القرن الرابع الهجري كانت فيها قبيلتان كبيرتان عربيتان، قبيلة قحطان وقبيلة قصّان، وأرادتا اختيار أحد رجالهما ليكون شيخاً وسلطاناً عليهما، فاختارتا الشيخ أبو بكر ابن فخر الدين القصّي، نسبة لبني قصّان أو بني قصّه البكريين القرشيين".
في المقابل، ترد شخصيات ذات صلة بقبائل القرن الأفريقي في التراث المصري، على رأسهم المؤرخ عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي، وهو يرجع في أصوله إلى بني هاشم، وينتمي إلى الجبرت مسلمي إريتريا. ولا تخفي قبائل وعائلات القرن الأفريقي افتخارها بأعيان من المصريين المعاصرين، وصلات القرابة التي تجمعهم بهم، كالإمام محمد متولي الشعراوي، ومن قبله رفاعة رافع الطهطاوي، ويحتفون بدورهم الإصلاحي في مصر.
مشاكل تعيق التواصل الطبيعي
على الرغم من العلاقات التاريخية التي لم تنقطع يوماً بين أبناء الإقليمين، فإنّ ظروفاً خارجيةً تحول بين حدوث تواصل مثمر بين أبنائهما. ويرى محمد حاجي، الدبلوماسي الصومالي المقيم في القاهرة أن تلك الظروف والعوامل تنقسم إلى "ظروف سياسية خلفتها التقسيمات الاستعمارية لتلك البقاع بحدود لا تراعي الامتدادت البشرية عبرها، ومشاكل تتعلّق بتعدّد اللغات في المنطقة على الرغم ممّا يحمله ذلك من ثراء، إلّا أنّه ومع وجود سياسات في الماضي أدّت إلى تراجع تعليم اللغة العربية، فقد تسبّب ذلك إلى نوع من الاغتراب بين أبناء المنطقة على نحو لم يسبق له مثيل".
ويشير القصاصي إلى مسألة أخرى دقيقة تتعلّق بعلم الأنساب، فيقول إنّه "مما يدعو للأسف حقيقة، أنّه ظهر في الآونة الأخيرة بعض مدّعي المعرفة بعلم الأنساب من خارج منطقتنا مدار الحديث، مِمّن جعلوا ذلك العلم الشريف سبيلاً لكسب المال بصورة غير نزيهة، وقد يكون مسلكهم هذا واحداً من معاول الهدم لصلات القرابة العائدة إلى أنساب ثابتة ومشهورة، تتعرّض للطعن والتفنيد من قبلهم، بصورة يعجب المرء لها، إن كان ذلك عن سوء نية، أو قلة علم، أو غياب للوازع الديني والأخلاقي".