فوجئ الرأي العام العالمي ليلة الأحد الماضي، بنبأ استقالة وزير الداخلية سليمان صُويْلُو، ثم رَفْض استقالته من طرف الرئيس رجب طيب أردوغان. نعم، شاهدنا في ليلة واحدة مسرحتين متتاليتين، ولكن سرعان ما أطلت الحقيقة برأسها.
وقد صرح الوزير صويْلو أنه استقال بسبب إعلان "حظر التجول" في 31 محافظة قبل نحو ساعتين من تطبيقه، مما أدى إلى حالة ارتباك بين المواطنين وهلعهم إلى الأسواق وازدحامهم بطريقة تنافي قواعد التباعد الاجتماعي التي لا بد منها من أجل الوقاية من انتشار الفيروس، إلا أن الرئيس أردوغان رفض هذه الاستقالة.
ولكن الغريب أن سليمان صويلو كان قد أكد أثناء إعلان "حظر التجول" أن القرار قد "صدر بأمر من الرئيس أردوغان"، ثم لما أعلن استقالته صرح بأنه "شخصياً يتحمل المسؤولية عن هذا الخطأ". وذلك يدل على أن الأمر لا يخلو من حزازة خافية.
قلتُ، "هناك مسرحيتان"، لأن صويلو وفريقه هم الذين لعبوا المسرحية الأولى، وأما الثانية فقد لعبها أردوغان نفسه.
جدير بالذكر، أن أول من أعلن عن هذه الاستقالة هي المؤسسة الإعلامية التي يسيطر عليها صهر أردوغان بيرات البيرق. ومن اللافت للانتباه أن صحيفة "ديلي صباح" عندما تحدثت عن القرار المتعلق بحظر التجول استخدمت تعبير "فاشل/غير موفق"، كما أنها ذكرت أن قرار الاستقالة كان في عِلم أردوغان.
كما أن المجموعة التي تُعرف في تركيا بفريق "Pelikan"، والمتشكلة من نحو ستة آلاف ناشطٍ على وسائل التواصل الاجتماعي بإشراف الصهر بيرات البيرق، بدأت تتبادل مشاركات منتقدة لسليمان صويلو ولا تُخفي سعادتها بسبب الاستقالة. والسبب في ذلك هو أن الوزير صويلو والصهر بيرات البيرق في حالة صِدام منذ نحو عامين، وهذا أمر يعرفه الرأي العام التركي.
ولا يزال البيرق يتحين الفرصة للقضاء على الوزير سيلمان بطريقة أو بأخرى، ولكن خاب أمله هذه المرة، حيث تبين أن الاستقالة كانت من دون عِلم أردوغان. ومن المؤكد أنه إذا غادر صويلو حزب العدالة والتنمية في هذا الظرف الحرج فسيصبح الأخير بطة عرجاء.
فلن يستطيع أردوغان أن يتخلى من بين وزرائه عن صويلو وعن وزير الدفاع خلوصي آكار (رئيس الأركان الأسبق)، ومن بين الكوادر البيروقراطية عن رئيس المخابرات هاكان فيدان، وإذا حدث شيء من ذلك فسيكون هذا نهاية أردوغان.
وبالتالي فإن صويلو الذي يعيش حالة توتر مع الصهر البيرق قد لعب لعبة بالغة الدقة والتخطيط وحصل منها على ما يريد بالمستوى المطلوب، كما أنه خرج من الحلبة أقوى مما كان. ومن ناحية أخرى، أصبح الجميع يرى هذه الأزمة داخل الحزب وهي طافية على وجه الماء، ويُشْبِه نوعا ما الصراع على السلطة داخل الحكومة والحزب.
وقد أَجبرت هذه الحملة الرئيس أردوغان على الدخول على الخط ليلعب هو اللعبة الثانية التي كان غيرَ مخطَّط لها في الوقت الحالي، فهو بدوره لم يقبل استقالة صويلو، وأعطى الانطباع بأنه أنهى اضطراباً مؤقتاً داخل حزب العدالة والتنمية، وحَقَّق الوحدةَ والتضامن من جديد. وهذا جلب إلى ذهني المقولة الشهيرة التي تقول "لا دخان من دون نار".
وربما يتساءل البعض، لماذا لا يستطيع أردوغان التخلي من صويلو على الرغم من صهره البيرق؟ وهذا ما أريد تفصيله بعض الشيء.
كان وزير الداخلية صويلو قبل انضمامه إلى حزب العدالة والتنمية في طليعة السياسيين الذين يوجهون الاتهامات اللاذعة والإهانات الكبيرة إلى الرئيس أردوغان، ولكنه بعدما انخرط في الحزب عام 2012 نسي كل ما قاله سابقاً، وسرعان ما بزغ نجمه في الحزب، وقفز بعد مدة قصيرة إلى منصب وزير الداخلية بشكل أثار غبطة الجميع، وهذ يعني أنه وصل إلى المقعد الثالث في الحكومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يُذكر أن صويلو محسوب على محمد آغار، الذي شغل منصب وزارة الداخلية في التسعينيات، ولا ننسى أن هذه الحقبة هي من أكثر الفترات دمويةً في تاريخ تركيا القريب، ففي تلك الفترة تم إحراق وتدمير الآلاف من القرى الكُردية، وبقي مئات الآلاف من المواطنين في جنوب شرقي البلاد من دون مأوى، واضطروا إلى الهجرة إلى المدن الكبرى للبحث عن ملاذٍ آمن ومصدر للعيش الكريم. وفي هذه الفترة الحالكة أيضاً تم اغتيال أكثر من 17 ألف شخص لم يجر الكشف عن قاتليهم.
والأكثر إثارة للاهتمام أنه تم تأسيس منظمة إرهابية تسمى "حزب الله" (في نسختها التركية)، وتمت تصفية معظم الأشخاص غير المرغوبين فيهم، بطرق وحشية.
ولم يتم الكشف عن هذه المنظمة التي تسمي "حزب-كونترا" (hizbi-kontra) إلا بعد حادث سيرٍ مات فيه زعماؤها قُرب بلدة تُسمى "صوصورْلوك"، مما أدى إلى تسمية عملية التحقيق في القضية بهذا الاسم (susurluk davası)، والحقيقة أنها كانت ذات صلة بالدولة العميقة.
وبعد أن أصبح صويلو وزيراً للداخلية ظل يتصرف مثل بلطجيٍّ وزعيم مافيا وبارون مخدرات، بدلاً عن كونه رجل دولة يمثل الدولة. وقد رأيناه يهدد عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بقوله "سأهينك"، ويصرخ في وجه الفنانين قائلاً "اعرفوا حدودكم".
نعم، عندما تعاون "ضحايا الأمس" (الإسلاميون السياسيون) مع الدولة العميقة من أجل البقاء في السلطة ظهرت مثل هذه الصورة القبيحة. والحال أن حزب العدالة والتنمية كان حتى عام 2011 قد تمكن من تحقيق نجاح لافت في كل من الاقتصاد والقرارات السياسية، ولكن أصبح بلدي للأسف ضمن فئة الدول غير المرغوب فيها في العالم.
وربما نحتاج إلى بعض الوقت لنرى لمن ستكون الغلبة في هذا الخلاف الحاد بين صويلو وبين صهر أردوغان. وللمرة الأولى تم عرض لعبة في مسرح حزب العدالة والتنمية بمبادرة خارج سيطرة أردوغان. وينبغي أن لا ننسى أن بيرات البيرق ومجموعته الإعلامية هم الذين تسببوا في تنحية أحمد داود أوغلو من منصب رئاسة الوزراء ثم من الحزب.
وقد استطاع صويلو هذه المرة أن يتفلت من براثنهم، ولكن العراك لن ينتهي في هذه النقطة.