قديماً قالوا، إن السياسة فن الممكن، وليس من المستغرب أن ينفصل سياسي عن حزبه ليلتحق بحزب آخر، يراه أقرب إلى تحقيق مبادئه أو طموحاته السياسية.
وبالنسبة إلى الواقع التركي فقد تكرر أن انفصلتْ مجموعة من السياسيين عن حزبهم ليشكلوا حزباً جديداً. ومن أبرز النماذج الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان.
فقد ارتضى لنفسه أن ينشق، مع مجموعة من زملائه، عن "حزب الفضيلة" الذي كان يتزعمه أستاذه ومربيه نجم الدين أربكان، ليُنشئوا "حزب العدالة والتنمية"، وبات هو رئيس الحزب الجديد بعد ذلك لفترة طويلة.
وتكررت هذه الظاهرة في أحزاب المعارضة أيضاً، فقد انفصل بولند أجاويد عن حزب الشعب الجمهوري وأنشأ حزباً جديداً سماه "حزب اليسار الديمقراطي". وثمة أمثلة أخرى من هذا القبيل.
لكن أردوغان نفسه لم يرض لغيره ما رضي به، بل ناقض نفسه بنفسه حين وصف المنشقين عن حزبه بأنهم "خونة وأعداء يمزقون الأمة".
وهناك حقيقة نستشفها من هذه التعبيرات وهي: أن الأمور لا تسير على ما يرام بالنسبة إلى أردوغان.
وإذا رجعنا إلى سَيْر الأحداث في هذا السياق، نلاحظ أنه تَظاهرَ في بادئ الأمر، وكأنه غير مكترث بمبادرة رئيس الوزراء السابق الذي أسس حزبه الجديد باسم "حزب المستقبل"، لكن هذه الحالة لم تدم طويلاً، بل أسفرت عن ردود فعل عنيفة من قِبل حكومة العدالة والتنمية ضد حزب داود أوغلو والمؤسسات التي لها صلة به.
ومن جانب آخر، لا تزال هناك حالة من الحذر والقلق تلوح على وجوه رموز "حزب العدالة والتنمية" تجاه الحزب الجديد الذي يتوقع أن يعلن عنه علي بَابَاجَانْ المدعوم من الرئيس السابق عبد الله غول.
وحين أعلن داود أوغلو عن حزبه وبرنامجه، التزم علي بَابَاجَانْ وفريقه الصمت والكتمان، مع أنهم كانوا قد أعلنوا أنهم سيؤسسون الحزب في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2019.
وفي وقت لاحق أخبروا بأنهم سيعلنون عن ذلك في الأيام الأولى من عام 2020. وها هو يناير (كانون الثاني) قد أوشك على الانتهاء وبَابَاجَانْ لا ينبس ببنت شفة.
يدرك أردوغان جيداً، أن بَابَاجَانْ سيضر بحزب العدالة والتنمية أكثر من داود أوغلو، ولذلك يقدم له عروضاً مغرية واحداً تلو الآخر، ليثني عزمه على إعلان الحزب. ففي الصيف الماضي اقترح عليه منصباً مهماً في الحزب، لكن بَابَاجَانْ لم يلتفت إلى ذلك.
ومن ثم اقترح عليه، أن يتقلد منصب المسؤول الخاص عن التنمية الاقتصادية لدول آسيا الوسطى، لكن تبين من خلال تصريح أردوغان نفسه أنه رفض هذا المنصب أيضاً.
ثم ذهب الرئيس التركي إلى أبعد من ذلك فاقترح عليه أن يتقلد منصب وزير الاقتصاد، بدلاً من صهره بَراتْ آلبيرق الذي يشغله حالياً. لكن بَابَاجَانْ رد عليه هذه المرة رداً دبلوماسياً فحواه "إنني لا أرغب في هذا المنصب، ولكن إذا كنتم تريدون مني إسهاماً فإنكم تستطيعون أن تستخدموا البرنامج الاقتصادي الجديد الذي قمت بإعداده".
وقد كانت خسارة حزب أردوغان في إسطنبول إصابة في الصميم، وأيقظ في روحه ذعرا قلَّما أحس به طوال حياته السياسية.
وفي هذه المرة حين تصدى له علي بَابَاجَانْ لينافسه في الانتخابات المقبلة، تضاعف هذا الخوف لديه وتحول إلى نوع من البارانويا/جنون العظمة، وأصبح يبحث عن حل ربما يكلفه ثمناً ليس بالقليل.
ووفقاً للمعلومات التي تلقيتُها فإن أردوغان بصدد أن يقترح عليه واحداً من منصبين:
أحدهما - وهذا أهونهما على أردوغان- أن يصبح نائب الرئيس. وثانيهما: - وهو الخيار المرير لدى أردوغان - أن يُرجعَ البلاد إلى النظام البرلماني ليصبح بَابَاجَانْ رئيساً للوزراء من دون أن يترأس حزب العدالة والتنمية بل يكون عضواً فيه فقط.
وليس من الصعب التنبؤُ بأن علي بَابَاجَانْ سيرد على كل هذه العروض المغرية بالرفض.
وبالنسبة إلى ردود فعل أردوغان على مبادرة أحمد داود أوغلو... ففي الآونة الأخيرة، عيّن وصياً على مؤسسة العلوم والفنون في إسطنبول، التي كان أحمد داود أوغلو من بين مؤسسيها، ما يعني مصادرةَ أردوغان مؤسسة تابعة لداود أوغلو.
وقبل ذلك تمت مصادرة جامعة إسطنبول شهر، التي أسسها داود أوغلو أيضاً.
ومن المثير للاهتمام، أن معظم أعضاء مجلس إدارة هذه الجامعة وتلك الجمعية كانوا من أنصار أردوغان السابقين.
وقد قال داود أغلو أثناء تعليقه على هذه المصادرة:
"إن هذه العملية تفتح المجال لتطبيقات سلبية تجاه تقاليدنا التاريخية في مجال الأوقاف الخيرية، وتكوين الجمعيات، وحرية الفكر والتعبير، والمجتمع المدني".
ومن المفارقات العجيبة أنه حين تمت مصادرة جامعات ناجحة مثل جامعة إيبَكْ، والفاتح، وتورغوت أوزال، إلى جانب أكثر من ألفي مؤسسة تعليمية من دون أي مبرر حقيقي كان داود أوغلو رئيساً للحكومة، وقال حينها في تعليقه "إن هذه عملية قضائية لا نستطيع التدخل فيها".
ولعل القارئ العزيز يتساءل ما علاقة قضايا داود بعنوان المقال المتعلق بعلي بَابَاجَانْ.
ولذلك أقول: إن كل هذه العمليات تحمل في طياتها رسالة إلى كل من تُسَوِّلُ له نفسَه أن ينبري للانشقاق عن أردوغان وتكوينِ حزب جديد بمن فيهم علي بَابَاجَانْ.
فمصادرة جامعة عمرها 12 عاماً، وجمعية عمرها 35 عاماً - مع العلم أنهما مؤسستان مرتبطتان بداود أوغلو- نذيرُ شؤمٍ بأن الخطوة اللاحقة قد تكون إغلاقَ حزبه حزب المستقبل واعتقالَ فريقه بحجج لا تصعب على أردوغان افتعالها.
وفي ذلك رسالة واضحة إلى علي بَابَاجَانْ بأنه إذا أغلق الباب تماماً أمام الحوار مع أردوغان فسيلقى المصير ذاته.
وهذه بداية لنهش الأشقاء الإسلامويين بعضهم بعضاً، وأعتقد أنها ستتبع بخطوات لاحقة.
ونعود إلى موضوعنا الرئيسي لنقول، إن عبد الله غول وعلي بَابَاجَانْ قد أصبحا يخففان من سرعتهما، وليسا في عجلة من أمرهما. ولربما يفترضان أنه لا تزال هناك 3 سنوات لموعد الانتخابات المقبلة، وفي الوقت نفسه لا يتجاهلان إمكانية إجراء انتخابات مبكرة.
وسيستغل بَابَاجَانْ هذه الفترة لكسب الوقت، وإنضاج الخطاب السياسي الذي سيواجه به المجتمع التركي بل والمجتمع الدولي.
ومن الواضح أنه سيسير في خط محافظ وليبرالي جديد.
صحيح أننا أمام سياسي يخاطب العقول والأذهان، ولكن ينقصه جانب مهم في السياسة، وهي: القدرة على إثارة الجماهير وتحفيزها.
وسأنتهز الفرصة في مقال لاحق للحديث حول دور حزب الشعب الجمهوري وعمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو في الخريطة السياسية التركية.