شهدت المدينة المنورة ارتفاعاً متزايداً في الأسابيع الماضية لحالات الإصابة بكورونا، مثل عدد من المناطق السعودية التي تجاوزت فيها حالات المرض في مجموعها سقف 12 ألف حالة.
لكن خصوصية المدينة التاريخية والروحية، جعلت العديد من المتخصصين يحيطون انتشار الفيروس فيها بالنقاش والجدل الفقهي، خصوصاً بعد أن اعتقد بعض سكانها بداية الأزمة أنهم لا يحتاجون التزام تعليمات "التباعد الاجتماعي"، على خلفية اعتقادهم أن مدينتهم ستكون محصنة من الجائحة.
ويعود ذلك في تقدير الباحث المدني الدكتور عبدالله كابر إلى خلل في التأويل، نشأ عند بعض الباحثين ممن يخلطون بين أنواع الأوبئة المختلفة، فيعتبر بعضهم كورونا له حكم "الطاعون"، رغبة في رفع معنويات المصابين به، إلا أنهم بذلك يُوقعون شرائح أخرى في حيرة، إذ جاءت نصوص نبوية بأن المدينة المقدسة التي اختارها نبي المسلمين محمداً (عليه السلام) مثوى لجسده الشريف، "لا يدخلها الطاعون".
الطاعون لا يدخل المدينة
وقال "استشكل كثير من الناس دخول فيروس كورونا للمدينة المنورة، وتوهم بعضهم معارضته للأحاديث الصحيحة في عدم دخول الوباء للمدينة، ومنها الحديث المشهور الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب "فضائل المدينة" برقم (1880) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ»، والجواب يأتي بمعرفة معنى الطاعون لغوياً وطبياً كما قرره العلماء المتقدمون والمعاصرون، والفرق بينه وبين الوباء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع "الطاعون لغة؛ هو مرض يصيب الإبل على شكل غدة وتموت منها غالباً، قال ابن قتيبة في كتاب الجراثيم 2/222 عن أمراض الإبل: "ومن أمراضها: الغدة وهو طاعونها، يقال منه بعير مغد". ومن أفضل من لخص كلام العلماء في تحديد معنى الطاعون ووصفه هو الحافظ ابن حجر في فتح الباري 10/180 الذي روى عن القاضي عياض ذكره أن "أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعوناً لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعوناً، قال: ويدل على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عمواس إنما كان طاعوناً. وقال ابن عبد البر: الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله".
كورونا ليس طاعوناً
وخلص كابر في دراسته لمحاولة إثبات الفرق بين كورونا والطاعون الذي جاء في الأثر أن المدينة محصنة منه، إلى أن تعريف الأطباء قديماً حتى عهد منظمة الصحة العالمية، يشير إلى علامات دقيقة للطاعون لا تنطبق على كورونا.
ولفت إلى أن جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سينا، قرروا أن "الطاعون مادة سُمِّيَّةٌ تُحدث وَرَماً قتَّالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، قال: وسببُه دمٌ رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سُمِّيٍّ يُفسد...".
وتم تشخيص الطاعون من منظمة الصحة العالمية التي قالت إن الطاعون مرض من الأمراض المعدية الموجودة لدى بعض صغار الثدييات والبراغيث المعتمدة لها. وقد يُصاب الناس بالطاعون إذا ما تعرضوا للدغ البراغيث الحاملة للعدوى، ويظهر عليهم الشكل الدبلي للطاعون، ويظهر في شكل التهابات بكتيرية تسبب تورم الغدد اللمفاوية. وأوضحت منظمة الصحة العالمية كيفية علاج الطاعون بالمضادات الحيوية، ويشيع التعافي إذا ما بدأ العلاج مبكراً.
ويرى كابر أن الحاصل من مجموع المدونات الفقهية والتاريخية إلى جانب الطبية القديمة والحديثة، يفيد بأن "كل طاعون وباءٌ وليس كل وباء طاعوناً، وأن الطاعون مَرَضٌ مشخَّصٌ معروف لدى أهل الاختصاص يعرفه الأقدمون والمعاصرون، وهذا الطاعون لم يدخل المدينة وهو المشار إليه في الحديث الصحيح، وأنه أحياناً يستخدم مصطلح "طاعون" للأوبئة الأخرى من باب المجاز".
وكان فقهاء عرب ومسلمون مثل مفتي تونس عثمان بطيخ رأى أن قتلى فيروس كورونا "شهداء"، تنزيلاً لنصوص الطاعون عليهم، وهي نصوص جاءت في مدونات الحديث النبوي الشريف، تشير إلى أن "المطعون شهيد"، أي المقتول بسبب مرض الطاعون.
بل هو طاعون ... ثم ماذا؟
وفي بداية الأزمة أعلنت دار الإفتاء المصرية، أن الوفاة بسبب فيروس كورونا تدخل في باب الشهادة، لكونه يندرج تحت اسم الطاعون، وهو عند كثير من المحققين يعني المرض والوباء العام.
وذكرت في فتوى لها، نقلتها قناة "العربية"، أن الوفاة بسبب فيروس كورونا "تدخل تحت أسباب الشهادة الواردة في الشرع الشريف، بناءً على أن هذه الأسباب يجمعها معنى الألم لتحقق الموت بسبب خارجي، فليست هذه الأسباب مسوقة على سبيل الحصر، بل هي منبهة على ما في معناها مما قد يطرأ على الناس من أمراض".
وأضافت أن "هذا المرض داخل في عموم المعنى اللغوي لبعض الأمراض، ومشارك لبعضها في بعض الأعراض، وشامل لبعضها الآخر مع مزيد خطورة وشدة ضرر، وهو أيضاً معدود من الأوبئة التي يحكم بالشهادة على من مات بسببها، فمن مات به فهو شهيد، له أجر الشهادة في الآخرة، غير أنه تجري عليه أحكام الميت العادي، من تغسيل وتكفين وصلاة عليه ودفن".
قراءة إشكالية
وفي الأسابيع الأخيرة، جاءت مدينتا مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث الحرمين الشريفين في القوائم الأولى بين المدن السعودية الأكثر إصابة، وفق إحصاءات وزارة الصحة السعودية، فحلت مكة لأيام عدة في المرتبة الأولى بأكثر من 300 إصابة في اليوم، والمدينة في المرتبة الرابعة والثالثة أحياناً، بعدد حالات تجاوزت 130 حالة الأربعاء الماضي.
وهذا ما جعل الكاتب السعودي حمزة المزيني، يلفت إلى أن مبادرة السلطات السعودية بتعليق العمرة والزيارة للمدينتين كان قراراً صائباً، إذ كم سيكون الأمر كارثياً لو تأخر ذلك القرار أو لم يتم.
أما الفقيه السعودي أحمد بن قاسم الغامدي فرجح أن إسقاط النصوص الدينية على حالات بعينها، أوهم عدداً من الناس تناقضاً في أحكام الشريعة وحقائق علمية أو واقعية، بسبب التوظيف السلبي من جانب المتشددين، بما فتح باباً للقدح في بعض النصوص الدينية الثابتة.
بينما في مسألة كورونا لا يرى في الأمر إشكالاً، فالطاعون بالمواصفات المشهورة عنه، لا ينطبق على كورونا، لكن ذلك لا يعني أن قتلى الفيروس ليسوا بشهداء، أو لهم أجر عظيم جراء صبرهم على محنة المرض.
أما كابر المتخصص في تاريخ المدينة المنورة، فإنه عاد إلى التأكيد على أن التاريخ يثبت أنها مدينة النبي عليه السلام شهدت أوبئة عدة، إلا أن جميع المدونات التي بين أيدينا تجمع على أن الطاعون بمواصفاته التي وثقها المختصون لم تطرق المدينة مطلقاً. كما أن "التزام البيوت والتباعد الاجتماعي الذي حضت عليه السلطات الصحية يحقق مقصداً شرعياً مهماً وهو حفظ النفس، إضافة إلى أن النبي وعد المتوفين في مدينته الصابرين على لأوائها، بأنه سيكون شفيعهم يوم القيامة". ولا تزال الوفيات بسبب كورونا في جميع السعودية بما في ذلك المدينة المنورة لا تتجاوز مئة وبعض عشر حالة.
جدل قديم يتجدد
من جهته كان المؤرخ السعودي الدكتور سعيد بن طولة، ذكر في كتابه "سفر برلك"، أن المدينة شهدت على إثره وباء قليل النظير، حلت بسببه مجاعة كبرى، دفعت السكان إلى أجل الجيف، كما يروي المؤرخون الذين وثقوا تلك المرحلة المأسوية من آخر أيام "العثمانيين" وقائدهم فخري باشا في الجزيرة العربية.
وليس كورونا الأزمة الأولى التي تثير جدلاً بسبب إطلاق لقب "الشهيد" على قتلاها، ففي سنوات مضت ساد نقاش بين وسائل إعلام عربية عدة، تصف بعضها قتلى الفلسطينيين في المواجهات مع الإسرائيليين "شهداء"، فيما تجنبت أخرى وصفهم بذلك لاعتقادها أنه ليس بين مهمات الوسيلة الإعلامية؛ أن تصنف القتلى على أساس ديني، فتمنح فريقاً منهم وسام الشهادة وآخرين تنزعها منهم. وعلق على ذلك الزميل الدكتور ياسر عبدالعزيز في مقالة له بـ"الشرق الأوسط"، الذي اعتبر الخلاف حول "شهيد" في مقابل "قتيل" خلافاً ليس مهنياً، "إنما هو خلاف سياسي، وربما يعززه أن بعض الوسائل يختار مقاربة مهنية تستخدم الوصف الأخير عندما يخص الأمر دولاً ومجتمعات أخرى، بينما يلوذ بالعُرف الآمن، ويستخدم وصف "شهيد" عندما يكون الضحايا تابعين للدولة التي تصدر عنها الوسيلة".