عاد اسم بن لادن يتردد في ساحات الأخبار العالمية بعدما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن مكافأة للقبض على ابنه الثلاثيني حمزة. كنا نظن أن هذه الصفحة طويت إلى الأبد بعد الغارة التي أدت إلى مقتل أبيه، وأن أحداً من عائلته لا يملك الرغبة في مواصلة مسيرة الرجل الذي لوّث الأسماع والأبصار لعقود. ربما كانت موجة وهبطت، وربما كانت صرعة وتقادمت، بل حتى سنوات بن لادن الأخيرة كانت هادئة وكأنما انصرف الناس عن وهجه، وانصرف هو إلى مخبأه، وقد دبت الشيخوخة في جسده مثلما دبت أيضاً في قضاياه وحلمه بتقسيم العالم إلى فسطاطين. ولكن عودة حمزة إلى الأضواء قد تشير إلى أن القضايا تموت، والرجل يموت، ولكن الرمزية لا تموت.
ماذا يعني هذا؟ لقد تبنى أسامة خلال حياته قضايا متعددة. تحالف فيها مع الغرب ثم انقلب ضده. استخلص ثروته من السعودية ثم سلطها ضدها. أعلن اختلافه مع إيران ثم لجأ إليها. قضايا سريعة وعاجلة أحياناً، ابتداءً من طرد السوفيات من أفغانستان، وانتهاء باستهداف كل ما هو غربيّ، مروراً بعرضه الشهير باستخدام المجاهدين الأفغان لطرد الاحتلال الصدامي من الكويت عام 1990. كل هذه القضايا ماتت. وهو نفسه مات. ولكن رمزية المقاتل من أجل قضية ما ضد قوى عالمية لم تمت. وهي رمزية كاريزمائية يمكن إسباغها مثل الثوب على شخصيات عديدة مع اختلاف قضاياها وتوجهاتها. رمزية مغرية لمن يمثلها ولمن يتعلق بها. رمزية كلفت العالم الكثير من الدمار والإرهاب وعطلت قطارات التنمية لعقود لأن أبصار الناس أعماها الوهج الخاطف لمناضلٍ يعرف كيف يهدم ولا يعرف كيف يبني.
غيفارا وماركوس وأساهارا وبن لادن كلهم قاتلوا من أجل قضايا، وأزهقوا أرواح الأبرياء من أجل قضايا، ورفعوا في سبيل ذلك عدة شعارات، واتخذوا من أجل ذلك عدة وسائل، وبناءً على هذه الشعارات والوسائل اختلف الناس حولهم حسب مستوى الوعي بين من يراهم مجرمين أو أبطال، وما بين ذلك من مساحة رمادية واسعة، ولكن في نهاية المطاف ماتت قضاياهم أو ماتوا هم، ولكن لا تزال العباءة النضالية الفضفاضة موجودة برمزيتها المغرية. عباءة روبن هود الذي يسرق ليهب، وعباءة المجاهد الذي يقتل ليحرر، وعباءة الإرهابي الذي يرهبك ليرغّبك. العباءة التي تحرك القلوب الساذجة بمشاعر يوفوريا لا يمررها العقل، ولكنها تمنحك شعوراً خاطفاً بالخلاص والصواب والنقاء والقرب من السماء. هي العباءة التي يستعد حمزة بن لادن لارتدائها الآن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما يبدو، فإن حمزة لا يملك أن يسلك المسارات التدريجية التي سلكها أبوه من قبل حتى يتاح له أن يصحح المسار. فهو سيبدأ من حيث انتهى أبوه، إرهابياً عالمياً. أما أبوه فقد تدرج حتى وصل إلى هذا المنصب عبر أربع قضايا كبرى تمحورت حولها حكاية بن لادن. القضية الأولى هي الجهاد الأفغاني والتي نصّبته بطلاً شعبياً في العالم الإسلامي وحليفاً مهماً في العالم الغربي وعدواً لدوداً في الاتحاد السوفياتي. القضية الثانية هي تواجد القوات الأجنبية في حرب تحرير الكويت، وقد قسمت شعبيته بين تيارات اجتماعية مختلفة، منها الإسلاموي والقوميّ والليبرالويّ، وحولته من مجاهد سعوديّ في أفغانستان إلى خطر محتمل على السعودية، ودقت الإسفين بينه وبين الغرب الذي فسخ تحالفه معه. أما القضية الثالثة فكانت إعلانه لاستهداف مدنيي الغرب. وقد حولته إلى إرهابيّ عالميّ، ونزعت عنه شرف النضال في أعين الغرب، وتحول إلى عبء ثقيل على السعودية بتعمده استخدام أبنائها لتنفيذ العملية فيما يشبه الوقيعة بين السعودية وأمريكا. ولكنها أيضاً أكسبته أتباعاً بالمجانّ، كانوا مشتتين في جبهات متطرفة مختلفة فانضموا أخيراً إلى تنظيمه غاضين أبصارهم عن الخلافات الآيديولوجية البسيطة لمجرد أنه شفى غليلهم ضد أمريكا. القضية الرابعة كانت استهداف الدول العربية، وهي القضية التي أفقدته جزءاً كبيراً من شعبيته في أغلب التيارات المحلية باستثناء المتطرفين، وأصبح مجرد التعاطف مع فكره أو ترويجه جريمة يعاقب عليها القانون.
انتهى، على ما يبدو، تأهيل حمزة بن لادن قائداً لمنظمة القاعدة السنية. وكان مركز التأهيل، إيران، رأس التطرف الشيعيّ. وهذه مفارقة أولية ينبغي لها أن تنهي القصة بأكملها قبل أن تبدأ. وهي قصة قصيرة ومكررة، ولكنها أثبتت نجاحها. كيف تخلق أداة سياسية تستخدمها في المفاوضات السرية لسنوات عديدة؟ حمزة هو الأداة اليوم. التحديث الجديد من أسامة. يخرج علينا بعد انتهاء صلاحية الأداة التي سبقته، واسمها داعش. وسيستمر في القيام بدوره المنوط به ما شاء الله للمفاوضات أن تستمر. ثم في صفقة ما يجد حمزة نفسه خارج المعادلة. تماماً مثلما وجد أبوه نفسه في ذلك. ولم يفق من صدمته إلا وهو في جوف البحر.