تعدّدت القراءات والتسريبات في لبنان حول خلفيات الاهتمام الدولي الطارئ بالوضع الداخلي خلال الأيام الماضية، سواء بفعل هجوم رئيس الحكومة حسان دياب على حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، ومن ثم ردّ الأخير عليه في بيان مفصل، أو بسبب تصاعد العنف في الشارع مطلع الأسبوع نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي أدت إلى وفاة أحد الشبان في مدينة طرابلس، وتصدّي الجيش لعمليات شغب ولإحراق عدد من مقرات المصارف في المدينة وفي صيدا.
فعلى الرغم من تراجع لقاءات السفراء والدبلوماسيين الأجانب في لبنان مع السياسييين والمسؤولين المحليين في الأسابيع الماضية بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي في مواجهة فيروس كورونا، شهد بعض المقرات زحمة اجتماعات أجراها كل من السفيرة الأميركية دوروثي شيا والسفير الفرنسي برونو فوشيه والمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش والسفير البريطاني كريس رامبلينغ.
السفراء الثلاثة التقوا الرئيس دياب، ومن ثم رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وقيادات أخرى، بينما التقى كوبيش ورامبلينغ الرئيس عون أيضاً ووزير المال غازي وزني. وارتفع مستوى الاهتمام الخارجي باتصال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بدياب يوم الثلاثاء.
القلق الخارجي من العنف في طرابلس
ومع انشغال كل الدول بكورونا، فإنّ لبنان تحت رقابة بعثاتها الدبلوماسية المؤثرة بسبب اهتمامها بسياسات "حزب الله" فيه وأزمته الاقتصادية الخانقة التي أطلقت انتفاضة شعبية منذ الخريف، والحلول المنتظرة لها.
وإضافةً إلى رصد هذه البعثات ارتفاع نبرة المواجهة بين الفريق الحاكم أي الرئيس عون ومعه دياب، وبين القوى المعارضة التي بقيت خارج الحكومة أي رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وحزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط (والأخيران شملتهما اللقاءات الدبلوماسية)، أقلق تصاعد العنف في طرابلس هؤلاء الدبلوماسيين. ورصدوا مآل السجال الحاد بين الفريق الحاكم وبين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول المسؤولية عن تردّي الأوضاع المعيشية والارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، وسط ارتفاع المخاوف من أن يؤدي اقتراح فريق عون إقالته، إلى إمساك "حزب الله" بالقرار المالي.
لكن اللقاءات ركّزت على مصير الخطة الاقتصادية المطلوبة بإلحاح من الحكومة اللبنانية التي تأخرت في إنجازها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتصال لودريان واختلاف البيانين اللبناني والفرنسي
وكعادة الفرقاء اللبنانيين، يسعى كل منهم إلى تجيير التحركات الخارجية لصالحه في إطار الصراعات الداخلية التي يخوضونها، ما أدى إلى فوضى في التسريبات والمعلومات حول المواقف الفعلية لهذه البعثات الدبلوماسية.
كما أن الحكومة التي تشعر بشبه تخلٍّ دولي عنها وعزلة عربية، على الرغم من المساعدات التي تلقّتها من دول غربية في مواجهة كورونا، سعت إلى تصنيف الاهتمام الخارجي بالتواصل معها في رصيدها بمواجهة خصومها.
وتجلّى ذلك في التسريبات عن الاتصال الذي أجراه الوزير لودريان بدياب، الذي قال في بيانه إن الوزير الفرنسي أكد تأييده للخطة الاقتصادية ونية فرنسا الدعوة إلى اجتماع لمجموعة الدعم الدولية للبنان بعد انتهاء أزمة كورونا، فيما لم يتطرّق بيان الخارجية الفرنسية عن الاتصال إلى الأمرين، بل ركّز على "الإجراءات الملموسة والصادقة المطلوبة بسرعة من الحكومة استجابةً لما ينتظره الشعب اللبناني لاستعادة الثقة بالاقتصاد واستعداد فرنسا لمواكبة الحكومة في الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمعالجة الأزمة، لصالح جميع اللبنانيين".
حقيقة الموقف الفرنسي
التقط دياب الاتصال لتكذيب معارضيه بأن لا دعم خارجياً للحكومة من أجل الرد على هذه المقولة بالبيان الذي أصدره، فردّ عليه المعارضون بتفنيد الفارق بين ما تضمّنه بيانه والبيان الفرنسي. وأخذ الأمر طابع السفسطة.
لكن حقيقة الأمر بحسب قول مصدر دبلوماسي مطّلع لـ "اندبندنت عربية" إن هدف اتصال لودريان، التشديد على ما انفكت فرنسا عن تكراره: ضرورة إحداث تقدم في الإصلاحات المطلوبة على قاعدة اعتبار الجانب الفرنسي أن مسودّة الخطة المالية الاقتصادية، التي وضعتها الحكومة إيجابية، نظراً إلى أنها تتطرّق إلى جوانب الأزمة كافة عموماً، وأنه يجب الإسراع في إقرارها من أجل الذهاب بها فوراً إلى صندوق النقد الدولي لطلب مساعدته في تنفيذها، وفرنسا مستعدة للعب دور مع الصندوق ومع الدول والمؤسسات المانحة من أجل مساعدة لبنان.
كما أن الجانب الفرنسي شدّد على أهمية أن يحصل بالتوازي تقدم في تطبيق الإصلاحات الملحة في قطاع الكهرباء والتزام الشفافية وخفض الإنفاق العام.
وفي نهاية المكالمة، أثار دياب مع لودريان إمكان دعوة فرنسا إلى اجتماع لمجموعة الدعم الدولية للبنان، فأجابه أنه ربما يتم البحث في الأمر بعد الانتهاء من أزمة كورونا.
وعلمت "اندبندنت عربية" في هذا الصدد أن ليس هناك مشروع لعقد اجتماع للمجموعة الآن، وأنه قد تكون هناك اتصالات بين بعض سفراء الدول الأعضاء فيها للتنسيق وتبادل الأفكار والمعلومات حول الوضع اللبناني.
ومع أن الجانب الفرنسي يستغرب أن "تُنسب إلينا أشياء كثيرة" عن لقاءات السفير فوشيه في بيروت، مثل التركيز على تناولها قضية إقالة رياض سلامة وسجال دياب معه، فإنّ المعطيات تفيد بأن باريس ناقشت الأمر من زاوية استعراض الوضع السياسي، لكنها ترى ضرورة "تجنّب المماحكات السياسية غير المفيدة على الإطلاق"، والتركيز يجب أن ينصبّ على الإسراع في الإصلاحات بشكل عملي وفي مناخ من التهدئة السياسية.
وبذلك، يشدّد الفرنسيون على أن قضية سلامة ليست موضوع لقاءات السفير، بل السعي إلى تجاوز ما يعيق الذهاب إلى الأمام في معالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية، إذ إنّه أمام مشهد التظاهرات في طرابلس وغيرها، على الرغم من تبادل الاتهامات السياسية، فإن ارتفاع سعر الدولار وأسعار المواد الغذائية والبطالة لا بد من أن تشعل الشارع. وطبيعي أن يحصل شغب لأن هناك أشخاصاً باتوا يشعرون بأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه في ظل الوضع المعيشي السيئ.
سائر اللقاءات الدبلوماسية وجهت الرسالة ذاتها على الرغم من تناولها مواضيع سياسية ساخنة وأخرى اقتصادية: الإسراع في الإصلاحات وعدم التلهّي بغيرها والإسراع بالتواصل مع صندوق النقد، والتحذير من تدهور الوضع الأمني على الأرض نتيجة عودة الاحتجاجات الشعبية، الذي أعاد لازمة "الحفاظ على الاستقرار" إلى الواجهة.
الموقف الأميركي والدولي والعربي
في المقابل، قال السفير البريطاني رامبلينغ بعد لقاء عون "الظرف الراهن في لبنان يحتّم تضافر كل القوى السياسية وتعاونها لتحقيق مصلحة لبنان العليا".
وفيما نفت أوساط السفارة الأميركية تسريبات نسبت إلى السفيرة شيا إطلاقها تحذيرات من التوجّه إلى إقالة سلامة تحت طائلة إجراءات عقابية، في لقائها باسيل، فإنّ القوى التي اجتمعت معها أيّدت هذا النفي. وقالت إن واشنطن تهتم لما يحصل من زاوية منع استخدام "حزب الله" النظام المالي اللبناني.
لكن تصريحها بعد لقائها دياب الذي بحثت معه مصير الإصلاحات وأولوية التواصل مع صندوق النقد للحصول على المساعدات لدعم تنفيذ الإصلاحات، عكَس قلقها من أحداث طرابلس، حيث أبدت تفهماً لمطالب المحتجين ودعت إلى "وقف حوادث العنف والتهديدات وتدمير الممتلكات"، وشجّعت "على السلوك السلمي وضبط النفس من الجميع"، قاصدةً بذلك المتظاهرين والقوى الأمنية والجيش على السواء.
ودأبت واشنطن على إعلان دعمها لمطالب الثوار منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول ) الماضي، وسبق أن حذرت المسؤولين على المستوى السياسي من إقحام الجيش في مواجهة مع الانتفاضة ولعبت دوراً مباشراً مع قيادة الجيش في هذا الصدد.
وعبر عن ذلك بدوره مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر حين قال لمحطة "الحرة" إن "الاحتجاجات نتيجة منطقية لسياسات سيئة متتالية وعلى لبنان القيام بالإصلاحات للحصول على مساعدات مالية دولية". لكنه أوحى بالموقف من قضية إقالة سلامة من دون أن يلمح إلى أي موقف من إقالته بالقول "إنّنا عملنا بشكل جيد مع حاكم مصرف لبنان في قضايا العقوبات على المصارف"، مُشيراً إلى أنّ "سلامة تعاون معنا في إغلاق حسابات لحزب الله".
شكلت المواقف والاتصالات الأميركية نوعاً من التنبيه إلى الطاقم الحاكم وبعض القوى السياسية إلى "أننا هنا ونراقب ما يجري" من أجل لجم التصعيد السياسي الذي نجم عن شعور الفريق السياسي المعارض بأن هناك توجهاً إلى استهدافه عبر شعارات محاربة الفساد والحملة على سلامة.
أما كوبيش، فاعتبر "الحوادث المأسوية في طرابلس ووقوع إصابات من الطرفين، إشارة تحذير إلى القادة السياسيين في لبنان". وكان ذلك بمثابة استعجال للحكومة على إقرار الخطة المالية الاقتصادية من جهة وعلى تلافي المزيد من العنف من جهة ثانية.
وجاء إدلاء الجامعة العربية بعد غياب عن لبنان لشهرين، بدلوها في التحذير من مواصلة الصراعات السياسية، فقال الأمين العام المساعد للجامعة، السفير حسام زكي إن "ما يشهده الشارع اللبناني من تصعيد ميداني خطير بين المتظاهرين والجيش اللبناني وبالذات في طرابلس، يمكن أن ينزلق بسرعة إلى ما لا تُحمد عقباه، والأمل معقود على حكمة قيادة الجيش والأجهزة الأمنية في التصرف بالمهنية والمسؤولية المعهودتين للحيلولة دون انزلاق البلد إلى المجهول".
ملاحظات للصندوق
علمت "اندبندنت عربية" أنه واكب الاتصالات والمواقف الدولية والعربية، اتصال أجراه وزير المال غازي وزني الأربعاء في 22 أبريل (نيسان) مع صندوق النقد الدولي أبلغه خلاله بالمسودة ما قبل النهائية للخطة المالية الاقتصادية الإصلاحية.
وعاد وزني فتلقّى رد فعل إيجابي على الإطار العام للخطة، مع ملاحظات تَقَدَّم بها الفريق التقني للصندوق.