تكون جالساً عند المساء أمام شاشتك الصغيرة، التي لم يعد لمعظمنا من نافذة غيرها مفتوحة على العالم في هذه الأيام، التي أُرغمنا فيها على البقاء معزولين، محجوراً علينا في بيوتنا مثلنا في هذا مثل مئات الملايين من البشر. فجأة تبدأ الشاشة بثّ صور من "العالم الخارجي" تحديداً إيطاليا، البلد الذي تعرف جيداً أنه كان يضج بالحياة كما لا يحدث في أي بلد أوروبي آخر.
فبالمقارنة مع غيرها من البلدان الأوروبية، تعتبر إيطاليا بلداً شديد المتوسطية، يعيش ناسُه في الشارع، ويقصده مئات ألوف الغرباء، آتين من كل مكان، منجذبين إلى تلك الحيوية بالتحديد، وإلى الصخب المتلألئ الذي لطالما عبّرت عنه السينما بأفضل ما يكون، ولطالما نقلت شاشات التلفزيون ذلك كله، ما يُشعر المرء أن الدنيا في خير.
استنهاض الذاكرة
لكن، عند العشيات التي نشير إليها هنا، ليس ثمة شيء من هذا. بل شوارع خاوية كئيبة لا يعبرها حتى القطط أو الكلاب، وبدلاً من أن تسأل نفسك السؤال الذي تعرف جوابه تماماً: ما الذي يحصل؟ تجدك تسأل نفسك سؤالاً آخر تماماً: أين رأيت هذا المشهد الإيطالي نفسه، أو ما هو شبيه به من قبل؟ أفي إيطاليا نفسها؟ أبداً بالتأكيد.
ولمّا كان المشهد إيطالياً ولا شيء سوى إيطاليّ، تستبعد أن يكون ما سبق لك مشاهدته مرتبطاً بأيّ بلدٍ آخر. من هنا لا بدّ من أن يتجه فكرك ناحية السينما، وتروح مقلّباً ذكرياتك وأفكارك. أبداً هذه المشاهد لم تُشاهَد في أي فيلم. وتبرق الذاكرة فجأة لتحيلك إلى صور أخرى: صور لوحات تشكيلية. ويبرز أمام عينيك الاسم الذي يصبح منذ تلك الثانية بديهياً: جورجيو دي كيريكو، وتتداعى أمام ناظريك مشاهد من لوحات هذا الفنان الذي يبدو اليوم وكأنّ مهمته أن يؤكد من جديد كم أن الحياة تقلّد الفن بمقدار ما يقلّد الفن الحياة.
ولئن كان في إمكاننا أن نتذكّر في السياق نفسه وفي المناسبة ذاتها لوحات عديدة، ستبدو لنا بالمقارنة مع لوحات دي كيريكو متخمة بالواقعية إلى حد وصفها من قِبل بعض المؤرخين بكونها "مفرطة في واقعيتها"، تنتمي إلى نتاجات الفنان الأميركي إدوارد هوبر، الذي عمّ الحديث عنه في هذه الأيام تحديداً لتصويره عزلة الأفراد واللاتواصل في ما بينهم بما في ذلك حين يكونون في مكان واحد معاً، راجع لوحته "صقور الليل" (1942)، فإننا سنتوقّف هنا عند واحدة من أكثر لوحات دي كيريكو شهرة من ضمن لوحاته التي نقلها وباء كورونا الذي "تميّزت" به إيطاليا خلال الأشهر الأخيرة، ومع الأسف، من خانة الفن السوريالي إلى خانة الفن الواقعي مرة واحدة وربما في غفلة عن الزمن والتصنيفات الأكاديمية. ولوحة دي كيريكو التي تعنينا هنا هي تلك التي تحمل أكثر العناوين إيحاءً: "غموض وكآبة الشارع".
من معجزات الفن الصغيرة
هذه اللوحة التي كانت لأشهر خلت، ومنذ رُسمت قبل أكثر من قرن، تحديداً في عام 1914، تعتبر غامضة يتوه مشاهدها بين ما تمثل من منظر وما تحمل من عنوان وتتنافى في مناخها مع المشهد الإيطالي العام، باتت اليوم واضحة تماماً، منطقية تماماً، وكأنها جزءٌ من نشرة أنباء الثامنة مساءً. أولسنا من جديد أمام ما يمكننا أن نسميه "معجزات الفن الصغيرة"؟
مَنْ يعرف أعمال دي كيريكو يدرك أن هذه اللوحة ليست متفرّدة في أعماله. فعديدة هي أعماله التي صوّرت مشاهد مشابهة لساحات كئيبة خاوية وظلال مرعبة، وتماثيل لا ينقصها إلا الكمامات التي باتت جزءاً من زيّنا الكوزموبوليتي المعمّم في هذه الأيام. وحسبنا أن نتذكّر لوحات له مثل "عزلة" (1912)، و"ملذات الشاعر" (1912)، و"آريان" (1913)، و"حنين اللانهاية" و"البرج الكبير" و"لغز يوم" (1914)، واللائحة تطول.
ومع هذا، تبقى اللوحة التي نتحدّث عنها هنا من أقوى أعماله وأكثرها إثارة للرعب وتواكباً مع الصمت الذي غالباً ما هيمن على لوحات الفنان. فما الذي لدينا في هذه اللوحة التي يبلغ ارتفاعها 87 سم، ويزيد عرضها قليلاً على 71 سم؟ واحد من المشاهد المدينية المعتادة لدى دي كيريكو، تتوزّع بين الظل العتم والضوء الساطع، شبح وعمود غامضان قادمان مهددان من خلف اللوحة، وحافلة متوقفة مفتوحة لا ندري لماذا. ثم فتاة صغيرة تسيّر عجلتها غير عابئة بشيء، أو لنقل غير متنبهة إلى شيء. هذا كل ما في الأمر تقريباً. إذ هناك أيضاً ذلك التهديد الخفيّ الذي قد يبدو لنا هنا وباءً منتشراً أبعد الناس عن المكان تاركاً ربما الموت أو التهديد به مخيّماً، أو الاختيار بينه وبين اللجوء إلى الحافلة.
نحو الوضوح المباغت
لأشهر خلت لم يكن من المنطقي تفسير اللوحة وما فيها إلى هذه الدرجة من الوضوح المنطقي، لكن اليوم تبدو الأمور متبدّلة. أفلم نقل لكم كم أن الحياة باتت تقلد الفن مستجيبة إلى شروطه إن لم نقل لنزواته؟ مهما يكن من أمر كان يمكننا لأشهر قليلة خلت أن نقول أيضاً بصدد الحديث عن جورجيو دي كيريكو إنه يعتبر الأكثر جرمانية والأقل إيطالية بين كبار الرسامين الإيطاليين في القرن العشرين. فهذا الرسام الذي ولد عام 1888 بمدينة نولو في منطقة تيساليا لوالد كان يعمل مهندساً في شركة إيطالية تتولى بناء خط السكة الحديد هناك، قضى طفولته وصباه في ميونيخ بعد موت أبيه، إذ إن أمه بدلاً من أن تعود إلى إيطاليا بعد موت الأب اصطحبت ولديها جيورجيو وألبيرتو (الذي أصبح لاحقاً واحداً من كبار الروائيين الإيطاليين، سيشتهر كذلك ناقداً وباحثاً في الموسيقى) إلى العاصمة البافارية حيث استكملا تعليمهما.
وهناك في ميونيخ، حيث التحق جورجيو بأكاديمية الفنون الجميلة كُتِب له وسط صخب الحياة الفنية الألمانية في ذلك الحين، أن يتشبّع بكل الأساليب الرمزية والتعبيرية، ما يعني أن دي كيريكو امتزج لديه الفن بالتعبيرات الأسطورية والسيكولوجية التي كانت تسود الفن الألماني في تلك المرحلة، التي كانت تتواكب مع اكتشافات فرويد في ميادين التحليل النفسي.
وإضافة إلى ذلك لا بدّ من أن نشير إلى أن دي كيريكو، وقبل أن يواصل المسيرة الطبيعية لأي فنان أوروبي في ذلك الحين ويتوجّه إلى فرنسا، أحسّ بهزة عنيفة في كيانه منذ اكتشف للمرة الأولى كتابات نيتشه، فكان أن استشعر، وعبّر لاحقاً في لوحاته عن انفعالات استثنائية، وجدت أشكالها في البيئة المدينية لمدينة تورينو التي عاش فيها ردحاً من شبابه، وحقق فيها أولى لوحاته المعروفة.
إيطاليا رغم كل شيء
إذن، في تورينو وفي 1910 كانت بداية دي كيريكو الحقيقية المازجة بين كوابيس التعبيرية والألوان الإيطالية والدلالات الفلسفية المستقاة من نيتشه. لكن في العام التالي 1911 توجّه دي كيريكو إلى باريس حيث تعرّف، أول ما تعرّف، إلى ماكس جاكوب وبيكاسو وأبولينير، وبدأت أصالة لوحاته وغرابتها تلفت إليه الأنظار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك في باريس راح دي كيريكو يحقق تلك اللوحات الغامضة التي كانت، إلى حد ما، جزءاً من مكونات الحركة السوريالية في باريس. ونظر النقاد إلى أعماله باعتبارها أعمالاً منطبعة بطابع ميتافيزيقي غير خفيّ، خصوصاً أنّ الرسام عبّر فيها عن كآبة تطغى على أعماق روحه وعن هواجسه الذهنية وعن إشراقاته الداخلية في آن. وحتى 1914 كانت لوحات دي كيريكو على أي حال تعبِّر عن تلك الإشراقات باللجوء إلى رسم الساحات الإيطالية والأصنام البشرية والأبراج المنتصبة تحت لهيب شمس ساخنة.
وفي جميع الأحوال، فإنّ بداية الحديث الجدي عن تيار الرسم الميتافيزيقي لم تبدأ إلا بعد أن عاد دي كيريكو إلى إيطاليا، فالتقى هناك شقيقه ألبيرتو سافينيو، وقد أضحى كاتباً كبيراً، وبدأت لديه مرحلة اللوحات الداخلية الميتافيزيقية، ذات الفن الروحاني الملفت، التي كان من الواضح أن مسعى دي كيريكو الأساسي فيها، إنما يتوخّى نوعاً من الوصول إلى سلام داخلي وصلح مع الذات. بالتالي فإنّ رحلته مع السورياليين لن تطول. في 1926 كانت القطيعة معهم، لكنهم ظلوا مع ذلك يكنون له احتراماً كبيراً، وبخاصة في ما يتعلق بأعماله الكبيرة التي سبقت انضمامه إليهم!
وفي 1929 نشر دي كيريكو رواية وحيدة عنوانها Hebdomeros كانت نوعاً من التعليق على تجربته التصويرية والعقلية. صحيح أنّ دي كيريكو لن يرحل عن عالمنا إلا في عام 1978، لكنه لم يعش طوال أكثر من نصف قرن من حياته إلا على مجد سنواته السابقة، ولم ينتج طوال عقود عدة ما يجعل له مكانة غير المكانة التي حققها في بداية حياته الفنية.