من الممكن اعتبار مواجهة جيليان دافي مع غوردون براون نقطة البداية في قصة العقد الثاني برمته، وذلك بدءًا من الحملة الانتخابية عام 2010 إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يناير(كانون الثاني) 2020.
عبّرت دافي في تلك المواجهة مع براون عن قلقها من حرية تنقل مواطني الاتحاد الأوروبي عبر الحدود، لكن رئيس الوزراء الذي كان في الوقت ذاته زعيم طبقة سياسية، أنكر ذلك القلق، معتبراً إيّاه نوعاً من التعصب الأعمى. وهناك خيط يربط بين ذلك الخلاف وبين التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، ومن ثم انسحابنا الفعلي منه بعد أربعة أعوام.
سألت جيليان دافي رئيس الوزراء الأسبق بطريقة مشاكسة خلال جولته الانتخابية حينذاك في روتشديل "لماذا يأتي جميع هؤلاء الأوروبيين الشرقيين إلى هنا؟ ومن أين يتدفقون؟" وأصبح ما قالته تلك السيدة رمزاً للفجوة التي كانت قد أخذت تباعد بين حزب العمال وجزء من ناخبيه التقليديين من أبناء الطبقة العاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من السهل آنذاك صرف النظر عن تلك الحادثة، بل في واقع الأمر، تجاهلها كما لو كان مجرد مثال على تعصب أعمى لا يستحق أي قدر من الاهتمام. لم يكن التنقل الحر لمواطني الاتحاد الأوروبي بين القضايا الأساسية التي تركّزت عليها حملة 2010 الانتخابية. فأوروبا كانت موضع نقاش في إطار الانتخابات لسبب رئيس آخر، هو وجود مخاوف آنذاك من احتمال تفكّك عملة اليورو جراء الصدمات التي أعقبت الأزمة المالية.
لذلك فإنّ الصخب الذي أثارته "المرأة المتعصبة"، على حدّ تعبير براون، التي "كانت سابقاً من أعضاء حزب العمال"، من دون أن يعرف أن الميكروفون كان مفتوحاً، انصبّ آنذاك بالدرجة الأولى على شكل المواجهة لا مغزاها. كان هناك عددٌ كبيرٌ من التغطيات الساخرة في وسائل الإعلام الرئيسة التي غصّت بكتابات ردّدت عبارات مؤداها "يا للعجب، ضُبطَ رئيس الوزراء وهو يقول الحقيقة عن ناخبة فظيعة؛ كيف سيتمكّن من الخروج من ذلك المطبّ؟".
لكن شيئاً أعمق وأكثر أهمية كان يحدث، فالقلق من التنقل الحر لمواطني الاتحاد الأوروبي ليس مجرد تعصب قومي، على الرغم من أنه قد يتضمن عنصراً من كراهية الأجانب. وما لم نعتبر الناخبين الذين صوّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، والذين شكلوا نسبة 52 في المئة من المشاركين في استفتاء عام 2016 عنصريين، فإنه كان هناك جدل يستحق الاحترام حول السيادة الوطنية أيضاً.
كان جميع السياسيين القياديين لكل الأحزاب الممثلة في البرلمان آنذاك، متخلّفين عن ركب هذا القلق، وكان نايجل فاراج مرشحاً هامشياً فشلت شعاراته في كسب تأييد واسع. فبالنسبة إلى براون وزعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون، ونيك كليغ زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، كانت عضوية الاتحاد الأوروبي أمراً مسلّماً به. كانوا يعرفون أن أحد شروط العضوية هو التنقل الحر للعمال المواطنين في هذه الكتلة، لكن كانت أرقام الوافدين خلال الشطر الأكبر من حياة كل من هؤلاء القادة، صغيرة. وإذا كان لديهم تحفظ بعد مجيء مليونين من مواطني أوروبا الوسطى، إثر توسيع الاتحاد الأوروبي عام 2004، فإنّهم برّروا القبول به باعتباره ثمناً يستحق دفعه لتحقيق فوائد أكبر من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بيد أن ذلك لم يكن ما شعرت به دافي. فحين زارها صحافيون في فترة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، قالت "أنا أحب كوني إنجليزية ولا أريد أن أكون أوروبية".
كان انفجارها الغاضب أمام غوردون براون قبل ستة أعوام، مؤشراً مهمّاً على بداية إعادة الاصطفاف في السياسة البريطانية، إذ بات ناخبو حزب العمال من الطبقة الوسطى التي تصوّت للمحافظين، في حين صار ناخبو حزب المحافظين من أبناء الطبقة العاملة، كأولئك الذين ينتخبون مرشحي حزب العمال عادة.
ونظراً إلى حلول الانقسام على أساس الموقف من الخروج من الاتحاد الأوروبي محلّ الانقسام الطبقي، باعتباره عاملاً حاسماً في السلوك الانتخابي البريطاني، تحوّلت دافي إلى نذير آت من المستقبل، رسول جاء من المناطق التي كانت مقاعدها البرلمانية محجوزة دائماً في الماضي لحزب العمال، في شمال إنجلترا ووسطها وشمال ويلز، والتي سقطت في يد حزب المحافظين في الانتخابات العامة في 2019.
وكانت مكافأتها إلصاق صفة التعصب القومي عليها من قبل زعيم حزب العمال آنذاك، وأن تلقى التجاهل من الزعيمين اللّذين خلفاه على رأس الحزب. فقد ظنّ إد مليباند وجيريمي كوربن أن الطريقة التي تمكّنهما من كسب تأييد الناخبين من الطبقة العاملة من جديد هي من خلال إعادة تأميم السكك الحديدية.
إنه بوريس جونسون الذي عرف ما كانت تعنيه رسالة جيليان دافي. فباعتباره زعيماً لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم رئيساً للوزراء قادراً على تنفيذ بريكست، فهم رغبة كثيرين من ناخبي حزب العمال التقليديين في حماية الكبرياء الوطني وتحقيق الاستقلال.
© The Independent