كل الأحاديث تدور على التغيير المفترض بفعل كورونا، ولا تغيير ملموساً. الوباء الذي غيّر نمط الحياة وأقلق العالم بأسره وأغلقه، لم يدفع الحكام إلى تبديل السياسات أو أقله السلوك. فلا الحروب توقفت عملياً حتى في رمضان وضغوط كورونا. ولا الصراعات الجيوسياسية والنزاعات الاقتصادية والتجارية أخذت استراحة بمقدار ما ازدادت حدة. الصين تلوح بما ترددت في فعله ضد تظاهرات "المظلات" في هونغ كونغ: "السيطرة الحاكمة الفاعلة" على المستعمرة البريطانية السابقة، بما يخالف القانون الأساس الذي يحدد علاقات هونغ كونغ ببكين حتى عام 2047، بصفتها "منطقة حكم ذاتي".
أميركا رفعت سقف الصراع مع الصين إلى حد الحديث عن عقوبات عليها بدعوى التأخر في كشف حالات الإصابة بكورونا، لا بل جرى اتهامها بأن الفيروس خرج من مختبر ووهان الذي كان هدية من فرنسا، لكن العلماء الفرنسيين منعوا من إدارته أو الإشراف عليه. كما اشتكت منظمة الصحة العالمية من أنها لم تستطع دخول المختبر.
في عز الوباء أصر الرئيس الأميركي دونالد ترمب على وقف المساعدات الأميركية لمنظمة الصحة، واتهم الصين بأنها تريد إسقاطه لمصلحة المرشح الديمقراطي.
ولا موسكو توقفت عن "زرع الشوك على طريق" واشنطن، ولا أميركا تخلت عن تكرار اتهامها الرئيس فلاديمير بوتين بالتدخل في الانتخابات الرئاسية. الحرب الأهلية في ليبيا تصاعدت بقوة تركيا التي رد عليها خليفة حفتر بإعلان نهاية "اتفاق الصخيرات" وحكومة فائز السراج من دون القدرة على تحقيق ذلك. طالبان شنّت هجوماً واسعاً على القوات الحكومية في أفغانستان. والخلافات بين دول الشمال ودول الجنوب في الاتحاد الأوروبي نفسه أوحت أن "بريكست" مشروع قابل للتكرار.
لكن الأحاديث لم تتوقف عما سمي "المستقبل الجديد" وإن رأته باريس بلسان وزير الخارجية جان إيف لودريان يشبه ما كان قبل كورونا و"لكن بشكل أسوأ". ففي مقال نشرته "نيويورك تايمز" دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى "أفكار كبيرة، لأن الشفاء من كورونا يجب ألا يعيدنا إلى ما كنا عليه في الصيف الماضي". فالأحداث الكبيرة خلقت أفكاراً كبيرة: مشروع مارشال والأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك بعد الوباء "فرصة لبناء اقتصادات ومجتمعات أكثر استدامة وشمولاً في عالم أكثر مرونة وثراء". أما سوزان رايس مستشارة الأمن القومي أيام الرئيس باراك أوباما، فإنها اعتبرت "التعافي من الأزمة ليس مجرد احتواء كورونا وإعادة تشغيل الاقتصاد والعودة إلى الوضع الطبيعي". إذ إن "الوضع الطبيعي مكلف ومهلك، والآن وقت إعادة البناء بشكل أفضل للاقتصاد والعناية الصحية والأنظمة التعليمية والمؤسسات الديمقراطية، بحيث نعالج جذور الأسباب لمرضنا الجماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما كارل بيلد، رئيس وزراء السويد سابقاً، فإنه رأى أن الفيروس يهاجم عالماً في تشوش وتفكك وخفض العولمة، وما دامت هذه هي القضية "فإن الفيروس يربح".
والتصورات المتضاربة لا تزال نظرية، والأسئلة الملحة لا تزال تبحث عن أجوبة. هل تقود ردود فعل الناس المحجور عليهم بفعل كورونا إلى تقوية أم إلى إضعاف سلطة رجال الدين؟ هل صارت الظروف ملائمة أكثر لنمو المنظمات التكفيرية الإرهابية أم أن العمليات الإرهابية صارت سلاحاً فاقد الفعالية وسط رفضه الدائم شعبياً؟ هل يفكر الحكام فعلاً، وهم يناورون ويمضون في الصراعات وتجاهل أوضاع الشعوب، بما يعنيه الحديث بدم بارد عن خفض النمو 10 في المئة، وهم ملايين الرجال والنساء بلا عمل ولا قدرة على ضمان الحد الأدنى من الحياة الكريمة لعائلاتهم؟
عام 2018 أرسل المهاجرون في العالم إلى أقاربهم 689 مليار دولار بحسب إحصاءات البنك الدولي. القسم الأكبر منها من الولايات المتحدة، والحصة الأكبر تذهب إلى عائلات في المكسيك أولاً ثم الهند والصين. ولا شيء سوى جزء صغير منها هذا العام بفعل كورونا وإغلاق الأسواق. والهجرة مرشحة إلى الازدياد في ظروف صعبة جداً. وأخطر ما يحدث هو أن يكتمل خطر الفقر وإفقار الطبقة الوسطى بخطر البؤس السياسي وطغيان السلطوية. والأخطر منهما، كما في رواية ألبير كامو "الطاعون" أن نجد أنفسنا بعد الخروج من هذا الوباء "غير مستعدين ولا مهيئين لحروب وطواعين جديدة كما هي الحال دائماً". وأي مستقبل جديد يولد من ماضٍ لا يمضي وحاضر لا يحضر ولا يتغيّر سلوك حكامه حتى في مواجهة كورونا؟