ملخص
في معرض يحمل عنوان "صور باقية" (غاليري آزاد، القاهرة)، تفتح لوحات الفنان العراقي وضاح مهدي نافذة على مشهد غامر باللون، وهو لون عتيق وشفاف ومُتفاوت في حضوره وكثافته.
في لوحات الرسام العراقي تطالعنا وجوه طفولية لنساء وفتيات يغزلن بهدوء تفاصيل المشهد بخيوط من البهجة. قد تتعارض هذه البهجة اللونية مع مشاعر طافية من الأسى تغلف المشاهد المُتخيلة لهؤلاء النساء والفتيات، غير أن هذا المزيج من البهجة والأسى هو ما يُضفي على هذه الأعمال طابعها الخاص.
في أعماله التي يعرضها غاليري آزاد في القاهرة تحت عنوان "صور باقية"، يواصل الفنان السير عبر هذا الدرب المفعم بالحنين والشجن. تطالعنا هنا أماكن حيادية لمشاهد إنسانية مألوفة، شخصيات ساكنة تستدفىء بعضها ببعض، وأخرى منغمسة في نشاطها اليومي المعتاد كأنها تُمارس طقساً بدائياً. هي شخصيات يسكنها الأسى لكنها تكتسي دائماً بلون الورد. أعمال الفنان العراقي ليست مجرد لوحات تتحدث بلغة الألوان، بل هي قصائد بصرية تسلط الضوء على العلاقات الإنسانية، وتعكس عمق التجربة البشرية بمهارة تجمع بين البساطة والرمزية. بأسلوبه المميز الذي يمزج بين الواقعية والرمزية، يصور مهدي مشاهد تفيض بالعاطفة والحميمية، مما يجعل أعماله تأخذ طابعاً فريداً يُلامس المشاعر.
في إحدى أبرز لوحاته، نرى فتاتين صغيرتين تمسكان بشريحتي بطيخ في مشهد بسيط ولكنه مليء بالرمزية. يُذكرنا المشهد ببراءة الطفولة والبهجة التي تأتي من الأشياء البسيطة. ومع ذلك فإن الألوان التي يوظفها الفنان والتي تتراوح بين الرمادي والأحمر والأزرق والبني تضيف طبقات من العمق العاطفي، فتمزج بين الفرح الحاضر وظلال الحنين إلى الماضي. ما يميز هذا العمل هو الطريقة التي يجمع بها وضاح مهدي بين التفاصيل الدقيقة، مثل تعبيرات الوجه، وتركيبة المشهد التي تبدو وكأنها لحظة مقتطعة من يوم طبيعي. في هذا التناقض بين البساطة والعمق، نجد رسالة أوسع عن الحياة بوجهها المزدوج: البهجة والسكون، والارتباط والانفصال.
لوحة أخرى مثيرة للاهتمام تُظهر فتاة جالسة أمام ماكينة خياطة، بينما تجلس فتاة أخرى في الخلفية في وضعية تبدو حالمة أو تأملية. الخلفية البنية المحايدة تعزز حضور الشخصيات وتجعلها محور التركيز. تسلط هذه اللوحة الضوء على العلاقة بين العمل والراحة، وبين الحلم والواقع، بحيث تُصبح ماكينة الخياطة رمزاً للجهد الإنساني الذي يتواصل مع الأحلام والطموحات. كما أن استخدام الفنان للمنظور العلوي يُضفي إحساساً بالمراقبة الهادئة، وكأن المشاهد مدعو لرؤية هذه اللحظة من زاوية مختلفة، مما يعزز الشعور بالتواصل مع الشخصيات.
في لوحة أخرى، يُصور الفنان مشهداً لعائلة ملتفة بعضها حول بعض في دائرة مغلقة. تبدو الشخصيات وكأنها في حالة من النوم العميق أو السكون الأبدي. اللون الأخضر الداكن للخلفية يعزز من هذا الإحساس، مما يخلق شعوراً بالراحة والسلام الممزوج بإحساس غامض من الفقد أو الترقب. لا يعبر هذا المشهد فقط عن الروابط العائلية، بل يشير أيضاً إلى الحماية والدعم اللذين يمكن أن نجدهما في هذه الدوائر الحميمة. عبر استخدام الرمزية والتراكيب البسيطة، يقدم مهدي فهماً عميقًا للأمان والراحة اللذين توفرهما العلاقات العائلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اللون هو البطل الرئيس في أعمال الفنان وضاح مهدي، من الأحمر النابض بالحياة إلى البني الهادىء والأخضر الداكن. يستخدم الفنان الألوان ليس فقط لتزيين لوحاته، بل أيضاً لنقل مشاعر وتجارب متنوعة. كل لون يحمل دلالة معينة، كالدفء الذي ينبعث من الألوان الترابية أو الحيوية التي تضفيها الألوان الزاهية المميزة لأعماله.
ما يميز أعمال الفنان وضاح مهدي هنا، هو قدرتها على خلق حوار داخلي بين المشاهد واللوحة، كما أن التفاصيل الدقيقة والتعبيرات الهادئة والتراكيب المبتكرة تدعونا للتأمل في العلاقات الإنسانية ومعانيها. إن هذه الأعمال ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي استكشاف عميق لما يعنيه أن نكون بشراً: كيف نشعر، كيف نحب، وكيف نتواصل مع العالم من حولنا.