بعثرت جائحة كورونا الخطط الاقتصادية التي وضعتها الحكومة المصرية لكبح جماح الدين العام، وخفض معدلاته إلى مستويات أكثر أماناً، كما عطلت استراتيجية الخفض التدريجي لمعدل الدين الحكومي حتى 77 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، قبل حلول عام 2022.
الحكومة المصرية التي اضطرت إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي، دفعتها الجائحة الوبائية الخطيرة إلى التوسع في الاقتراض المحلي، على خلفية انسداد شرايين الموارد الرئيسة للعملة الأجنبية، وفي مقدمتها عائدات التدفقات السياحية، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج، في مقابل نزيف حاد للاحتياطي النقدي الذي تعتمد عليه القاهرة لتأمين احتياجاتها المختلفة المستوردة من الخارج، الذي فقد 8.5 مليار دولار في أقل من 60 يوماً.
اختبار صعب
رياح الوباء الحمراء، هبّت بما لا تشتهي سفينة الحكومة المصرية، في الوقت الذي مالت الديون إلى درجة من استقرار لا بأس بها، مع اتباع الدولة سياسة ترشيد الاستدانة الخارجية، بهدف التخلص من أعباء الفوائد الضخمة، المترتبة على بلوغ الدين العام نحو 108 في المئة عام 2017، وهو ما وضع الحكومة أمام اختبار صعب عليها أن تجد الطريق الأمثل لاجتيازه.
الاستراتيجية المصرية ارتكزت، خلال الفترة الأخيرة، على تنويع مصادر التمويل بين الأدوات والأسواق المحلية والخارجية، إلى جانب التوسع في أدوات تمويلية طويلة الأجل من السوق المحلية، كبديل عن الاقتراض الخارجي، قصير الأجل، واعتمدت أيضاً على التوسع في إصدار السندات متوسطة وطويلة الأجل بديلا للأذون، بهدف زيادة عمر الدين، والحد من مخاطر إعادة تمويل المديونية القائمة.
الجائحة تعرقل المسيرة
وكادت القاهرة أن تحقق مسعاها، عندما نجحت في خفض معدل الدين الحكومي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي من 108 في المئة عام 2017، إلى 90.5 في المئة في عام 2019، مما جعلها تندفع نحو استهداف المزيد من الانخفاض حتى 82.5 في المئة نهاية العام الحالي، و77.5 في المئة خلال يونيو (حزيران) 2022، لكن جاءت الجائحة لتعرقل تحقيق هذه الأهداف.
الحكومة المصرية تعهدت نهاية العام الماضي، بعدم اللجوء مجدداً إلى صندوق النقد الدولي عقب تسلمها ملياري دولار منه، تمثل الشريحة الأخيرة من تمويل قدره 12 مليار دولار أميركي، في مقابل تطبيق برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي. انتهى العام الماضي، على أن تسدد القاهرة القسط الأول من القرض علاوة على فائدة لا تزيد على 2 في المئة خلال النصف الأول من العام المقبل، بعد استنفاد فترة السماح عقب حصولها على الشريحة الأولى من التمويل.
الحكومة تتراجع عن تعهداتها
شراسة جائحة كورونا، اضطرت الدولة المصرية إلى تنفيذ خطة احترازية شاملة، بلغت تكلفتها 100 مليار جنيه (6.3 مليار دولار) بهدف تخفيف أثر الأزمة إلى أقل حد ممكن، ومعالجة التداعيات الاقتصادية السلبية، الناجمة عن توقف الإنتاج، وتعليق حركة الطيران، وتقييد حركة الأفراد.
ومع الإجراءات الاحترازية المشددة، التي تهدف للحفاظ على النظام الصحي من الانهيار، فقدت الخزانة المصرية أهم مواردها من السياحة، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج إضافة إلى تراجع حاد في حصيلة إيرادات قناة السويس، ليعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي نهاية أبريل (نيسان) الماضي، عبر مؤتمر صحافي، طلب تمويل إضافي من صندوق النقد الدولي، بواسطة آلية التمويل السريع، التي أتاحها الصندوق لكل الدول الأعضاء، التي تواجه احتياجات طارئة.
المبررات
وزير المالية المصري محمد معيط، خلال المؤتمر ذاته، برر طلب تمويل إضافي سريع من صندوق النقد بقوله، "الحكومة أنفقت ما يقرب من 40 مليار جنيه (2.5 مليار دولار) خلال 30 يوما فقط، من ضمن الـ100 مليار جنيه، (6.3 مليار دولار) المخصصة لمواجهة الجائحة، مؤكدا أن نصيب القطاع الصحي من هذا المبلغ يصل إلى 5.1 مليار جنيه (318 مليون دولار).
موافقة صندوق النقد الدولي
من جهته وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، بشكل سريع في اجتماعه الذي عقد الاثنين الماضي على الطلب المصري، معلناً صرف مساعدة طارئة بقيمة 2.772 مليار دولار، بما يعادل 100 في المئة من حصة القاهرة لدى الصندوق، بحسب بيان صادر عن الصندوق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصندوق أكد في بيانه أن مصر حققت تحولاً إيجابياً ملحوظاً، قبل صدمة الجائحة، حيث نفذت برنامجاً ناجحاً للإصلاح الاقتصادي، بدعم من صندوق التمويل الموسع "EFF" التابع لصندوق النقد الدولي، بهدف تصحيح الاختلالات الخارجية والداخلية الكبيرة في اقتصاد البلاد.
ديون مصر للصندوق قد ترتفع إلى 20 مليار دولار
أحمد كجوك، نائب وزير المالية المصري، قال في مداخلة هاتفية بإحدى الفضائيات المصرية، إن الحكومة ستبدأ مباحثات مع صندوق النقد بشأن تمويل جديد، متوقعاً أن تتراوح قيمته ما بين 4 و5 مليارات دولار، في إطار ما يُعرف بـ"اتفاقية الاستعداد الائتماني".
كجوك أوضح، خلال المداخلة ذاتها، أن حجم هذا التمويل، سيعتمد على تقييم المجلس التنفيذي للصندوق، لمدى احتياج البلاد لمواجهة أزمة كورونا "كوفيد-19"، وقدرة مصر على السداد، وسجلها السابق مع الصندوق.
لذلك فحزمة التمويلات الجديدة قد ترفع مديونية مصر لدى صندوق النقد الدولي من 12 مليار دولار، إلى ما يناهز 20 مليار دولار، في أقل من خمس سنوات، لم تسدد منها شيئاً حتى الآن.
الاحتياطي العام ينزف
لجوء القاهرة إلى طلب المساعدة من صندوق النقد، جاء على خلفية فقدان الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، لـ8.5 مليار دولار في أقل من شهرين، بما يعادل 18 في المئة، وذلك للمرة الأولى منذ 14 شهراً، وتحديداً منذ يناير (كانون الثاني) عام 2019، حيث لم يفقد الاحتياطي دولاراً واحداً طوال هذه المدة.
وأظهرت بيانات البنك المركزي المصري، تراجعاً قيمته 5.4 مليار دولار، بالاحتياطي النقدي الأجنبي، خلال مارس (آذار) الماضي، قبل أن يفقد 3.1 مليار دولار أخرى في أبريل (نيسان)، بحسب بيان البنك الصادر الخميس الماضي، ليسجل صافي احتياطي النقد الأجنبي 37 مليار دولار بنهاية الشهر الماضي، مقابل 45.5 مليار دولار بنهاية فبراير (شباط) 2020.
البنك المركزي أرجع هذا النزيف في الاحتياطي النقدي، إلى استخدم نحو 8.5 مليار دولار منه في تغطية احتياجات السوق المصرية من العملات الأجنبية، وتغطية تراجع استثمارات الأجانب، والمحافظ الدولية، وضمان استيراد السلع الاستراتيجية، بالإضافة إلى سداد الالتزامات الدولية الخاصة بالديون الخارجية على الدولة.
الدين الخارجي يسجل 112.6 مليار دولار
وقبل موافقة صندوق النقد الدولي بنحو 48 ساعة، ارتفع الدين الخارجي المستحق على مصر بنحو 3.3 مليار دولار، خلال الربع الثاني من العام المالي الحالي، ليسجل 112.67 مليار دولار، بنهاية ديسمبر (كانون الأول)، مقابل 109.36 مليار بنهاية الربع الأول من العام الحالي. وعلى أساس سنوي ارتفع الدين الخارجي بنحو 16.1 مليار دولار، ليبلغ 96.6 مليار دولار، في الربع الثاني من العام المالي الماضي.
ووفق بيانات البنك المركزي المصري، الصادرة الأسبوع السابق فإن الدين طويل الأجل، سجل نحو 101.3 مليار دولار بنسبة 89.9 في المئة بنهاية ديسمبر الماضي، فيما سجل الدين قصير الأجل نحو 11.28 مليار دولار بنهاية الشهر نفسه، بنسبة 10.1% من الإجمالي. ويشمل الدين العام المصري الدين الخارجي و الدين المحلي.
الحكومة تقترض 318 مليون دولار يومياً
وقبل أن تخرق القاهرة استراتيجيتها لخفض الدين في شِقه الخارجي، بطلب تمويل قد يصل إلى 8 مليارات دولار، من صندوق النقد الدولي، كانت بالفعل خرقت الشق المحلي، عندما توسعت في الاقتراض من السوق الداخلية بقيمة 825 مليار جنيه، (52 مليار دولار)، مقابل إصدار أذون خزانة بالعملة المحلية، منذ يناير الماضي وحتى مايو (أيار) الحالي، بقيمة توازي الاقتراض محلياً بواقع 5.5 مليار جنيه يومياً، (318 مليون دولار يومياً)، بمتوسط أسعار فائدة تتراوح بين 12.1، و14.97 في المئة، وفقا لبيانات البنك المركزي المصري، التي تشير أيضاً إلى أن الحكومة المصرية تسعى إلى الاقتراض محلياً بقيمة 975 مليار جنيه (62 مليار دولار) لتدبير حاجاتها خلال العام المالي الجديد 2020-2021 عن طريق أذون وسندات خزانة.
وتستخدم الحكومات السندات، إحدى أدوات الديون طويلة الأجل لأكثر من عام، في تدبير التمويلات، أما أذون الخزانة فهي أدوات دين قصيرة الأجل تسدد في أقل من عام
ارتفاع إجمالي الدين العام، الذي لا يسبب ضغطاً على معدلات نمو الاقتصاد فحسب، بل يرهق الموازنة العامة للدولة، ويلتهم نحو 50 في المئة من إيراداتها، حيث تخصص وزارة المالية المصرية، ضمن موازنة العام الجديد، التي تبدأ في الأول من يوليو (تموز) المقبل، 566 مليار جنيه (36 مليار دولار)، لسداد فوائد الديون فقط، وذلك من جملة إيرادات الدولة المستهدف أن تصل إلى 1.2 تريليون جنيه (75 مليار دولار) في عام 2020 -2021.
ارتفاع حجم الدين المحلي
وفي هذا الصدد توقع المتخصص في شؤون الاقتصاد فخري الفقي، ارتفاع إجمالي الدين الخارجي، بعد حصول مصر على تمويلات جديدة من صندوق النقد الدولي إلى نحو 120 مليار دولار.
وقال الفقي لـ"اندبندنت عربية"، "لا يقلقني ارتفاع حجم الدين المحلي، خصوصاً أنه يسدد بالعملة المحلية، إنما القلق يأتي من ارتفاع الدين الخارجي، بخاصة إذا تخطى 50 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، علاوة على أنه يسدد بالعملة الصعبة".
ولفت إلى أن الصعوبة في هذا الأمر تتضاعف في مثل هذا الوقت الذي نضبت فيه مصادر العملات الأجنبية، وتوقفت عن الضخ، مشيراً إلى أن الدين الخارجي يزحف بعد تعلية ديون الصندوق النقد بنحو 40 في المئة .
وعول على استعادة الاقتصاد الوطني عافيته، بعد القضاء على الجائحة العالمية، خصوصاً أن قرض التمويل السريع من صندوق النقد، (2.7 مليار دولار)، يسدد خلال خمس سنوات، بفترة سماح 42 شهراً، وبفائدة لا تزيد على 2 في المئة، وهي منخفضة إلى حد كبير على حد قوله.
وأتمّ الفقي بالقول "نأمل أن تنتهي التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وأن تعود روافد العملة الأجنبية للضخ من جديد، قبل موعد بدء سداد القرض.
بدوره أبدى مدحت الشريف، عضو اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب المصري اعتراضه على الاستدانة مجدداً من صندوق النقد الدولي، وما يصاحب ذلك من زيادة في أعباء الدين.
وقال الشريف، "الحكومة عرضت علينا الموازنة العامة للدولة الجديدة، في شهر أبريل الماضي"، مؤكداً أنها في طور المناقشة تحت قبة البرلمان حالياً.
وحول ملاحظاته على الموازنة أوضح الشريف، أن الحكومة تجاهلت عند إعداد الموازنة، تفشي جائحة كورونا، وكان من المفترض اتباع خطة تقشفية في الإنفاق، عوضاً عن طلب قروض خارجية، التي تزيد فاتورة الفوائد المرتفعة بالفعل. مؤكداً أنه سيقدم طلب إحاطة، لإرغام الحكومة على تنفيذ خطة تقشفية في أسرع وقت ممكن.