قبل 20 عاماً أغلق العسكري الإسرائيلي بيني غانتس بوابة الحدود اللبنانية الإسرائيلية خلفه، ليكون آخر المنسحبين من جنوب لبنان بعد احتلال مديد، استمر منذ عام 1978 وتوسع إثر اجتياح شامل عام 1982 ليشمل العاصمة بيروت ومناطق واسعة في الجبل والبقاع.
بيني غانتس كان في الثالثة والعشرين من عمره يوم الخروج من لبنان. سيواصل ترقيه في الجيش الإسرائيلي ليصبح رئيساً للأركان، ثم ينتقل إلى العمل السياسي فيُنتخب نائباً العام الماضي، ويشكل تكتلاً سيتقاسم باسمه منصب رئاسة الحكومة مع بنيامين نتنياهو، وفي انتظار دوره بالرئاسة سيكتفي ابتداء من 17 مايو (أيار) الحالي بالقيام بدوره كوزير للدفاع .
وليس غانتس غريباً عن غيره من السياسيين الإسرائيليين، فكثرة منهم جاءت إلى السياسة من الجيش، وليس ذلك مستغرباً في بلد يفرض التجنيد على شبابه وبناته، ويقوم بالأساس على استراتيجية التوسع والاحتلال والضم، وقد مارسها في مجمل أراضي فلسطين التاريخية، انطلاقاً من أراضي 48 وصولاً إلى الضفة الغربية وغزة، وأعلن ضم الجولان السورية منذ عام 1981، فيما يستعد الآن إلى ضم أجزاء من الضفة وغور الأردن، مستنداً إلى دعم خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المسماة "صفقة القرن".
ويعترض العسكريون الإسرائيليون عادة على تجاهل ما يسمونه "المستوى السياسي" للقيادات العسكرية في اتخاذ القرارات، ويسري ذلك على لبنان. فحسب صحيفة "ها آرتس"، فإن "كل المواقف السياسية المرتبطة بدخول لبنان والانسحاب منه، تم اتخاذها من قِبل المستوى السياسي من دون الاهتمام بتقديرات الاستخبارات العسكرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي 1982 عندما اتخذت حكومة مناحيم بيغن قرارها بغزو لبنان، قيل إن العدوان لن يتخطى مسافة 40 كم، لكن أرئيل شارون، وزير الدفاع آنذاك، سار بقواته نحو بيروت وخط دمشق في خطوات غير متفق عليها. وإذا كان صحيحاً أن شارون مسؤول سياسي، فإن التاريخ العسكري للرجل هو ما حمله إلى موقعه السياسي، وهو ما يمكن أن يُقال عن بيني غانتس، منذ إغلاقه الباب في الجنوب حتى توليه منصب شارون في حكومة نتنياهو .
انسحبت إسرائيل في 24 مايو 2000 من الجنوب اللبناني؛ لأن هجمات المقاومة اللبنانية ضد قواتها لم تتوقف يوماً. ومنذ اقتحامها بيروت في منتصف سبتمبر (أيلول) 1982، انخرطت الأحزاب الوطنية اللبنانية في جبهة المقاومة، التي طاردت قوات الاحتلال وأخرجتها من بيروت أولاً، ثم من جبل لبنان، وبعده صيدا، والنبطية، ثم جزين ومنطقتها .
طوال هذه السنوات لم يتضح الهدف الحقيقي لبقاء الإسرائيليين في لبنان. فهدفهم الأساس تمثل في طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وهو ما حققته في نهاية أغسطس (آب) 1982 عندما انتقل الرئيس ياسر عرفات وقواته بحراً إلى تونس. أما هدفهم الثاني فكان إنجاز اتفاق سلام مع لبنان لم يتحقق؛ نتيجة اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل، ومعارضة فئات واسعة من اللبنانيين واجتماعهم في جبهة رافضة مدعومة من دمشق، التي زجّت بجيشها مجدداً في النزاع اللبناني الداخلي مدعومة برغبة سوفياتية في التصدي لتحركات إسرائيلية مدعومة من أميركا .
بدأ الحديث الإسرائيلي عن ضرورة الانسحاب في وقت مبكر، وتزايدت الشكوك في أسباب البقاء. أكثر من ذلك يقول الجنرال الإسرائيلي المتقاعد عاموس جلبوع في كتابه "شفق الصباح"، إن قرار دخول لبنان هو بالأساس "مهزلة تاريخية". يضيف إن "المكوث في لبنان لم يغيّر شيئاً، لأننا لم نسعَ إلى أي هدف". بينما كتب الضابط اليعازر شتيرن عن وضع الجيش خلال ذلك قائلاً، "17 سنةً في حرب، لم يطلب منه أحد أن يحسمها وينتصر فيها".
وتعكس هذه الأقوال جانباً من الحقيقة وليس كلها. إذ كانت إسرائيل تعتقد أن اجتياحها الصاعق سيؤدي إلى قيام سلطة متعاونة، يُتيح عقد معاهدة معها، يليها انسحاب سريع لقواتها ولبقية القوى الأجنبية من لبنان. غير أن هذا بدا مستحيلاً، فلم تكن السلطة اللبنانية عاجزة فقط عن الالتزام باتفاق، بل إنها انهارت وتمزقت مع اندلاع حرب الجبل اللبناني وسلسلة من الاشتباكات الداخلية بين مختلف الأطراف الحليفة والمتناحرة.
وبينما كانت المقاومة الوطنية تطارد قوات الاحتلال، وحلت المقاومة الإسلامية التي يقودها الحرس الثوري الإيراني مكانها، نتيجة ظروف وقرارات إقليمية، كان دور الدولة اللبنانية يتلاشى، ولم تجد إسرائيل من تفاوض في لبنان. فسلطة القرار باتت كلياً في دمشق وطهران، وسيتكرس ذلك رسمياً في ترجمة اتفاق الطائف بعد إقراره، حيث استثنى السوريون حزب الله وحده من قرار نزع سلاح الميليشيات، فبات وحيداً في مواجهة قوات الاحتلال التي ما عادت تنتظر شيئاً من سلطات بيروت، بقدر ما راهنت على مفاوضات مع سوريا في إطار مؤتمر مدريد، ثم مفاوضات مباشرة مع وفود سوريا في أميركا، وصولاً إلى اللقاء الأخير بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والسوري الراحل حافظ الأسد في جنيف قبل شهرين من الانسحاب .
اكتفت سلطات بيروت الرسمية طوال السنوات السابقة للانسحاب الإسرائيلي بإعلان المطالبة بتنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن والقاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية في أعقاب اجتياح 1978. لم تضف تلك السلطات حرفاً على تكرار تلك المطالبة، لأنها كانت تعرف وتسلم بأن القرار ليس بيدها، بل بيد سلطة الوصاية السورية، وتحولت هي في عقد التسعينيات إلى تابع يُنفذ ما يُملى عليه في القضايا الكبرى والأقل شأناً، بما في ذلك مسألة الاحتلال والتحرير والسيادة الوطنية .
انسحبت إسرائيل تنفيذاً للقرار 425، وقد حرصت على إبلاغ الأمم المتحدة بقرارها وتسجيله رسمياً عشية بدء انكفائها، وهو ما فاجأ أصحاب الحسابات الأخرى بما في ذلك في سوريا؛ فتحرير الجنوب سيُفقِد دمشق ورقة أساسية في مفاوضاتها بشأن الجولان، وسيجعل وجودها في لبنان، الذي بررته منذ تدخلها العسكري في 1976 بحماية لبنان في وجه الاحتلال، مرفوضاً لانتفاء مبرراته التي لم تكن صادقة يوماً. وفي الجانب الآخر لم يكن الانسحاب مقبولاً في إيران، التي حققت في لبنان أحد أهم إنجازاتها في تشكيل أقوى ميليشيات تتبع نهجها وتلتزمه، وهو ما ستكون بحاجة إليه كوسيلة ضغط في صراعها مع الأميركيين و"حربها" المفتوحة مع إسرائيل بموازاة توسيع اختراقاتها في العالم العربي .
للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تنسحب إسرائيل من أرض احتلتها من دون مفاوضات أو شروط. عاد اللبنانيون الذين أبعدهم الاحتلال إلى قراهم بحماس، لكن المناسبة لم ترتقِ إلى حدود الفرحة الوطنية الشاملة التي تحدث عند انتهاء الحروب.
بسرعة صارت المسألة ضرورة أن يواصل حزب الله حمل السلاح لتحرير مزارع احتلتها إسرائيل عام 1967، ولَم تقر سوريا يوماً بلبنانيتها، وقاد هذا النقاش إلى جدل حول الوجود العسكري السوري، فإذا كانت المعركة مع إسرائيل ستستمر عبر الجنوب اللبناني، فإن بقاء السوريين ضروري لتحقيق التوازن القومي الاستراتيجي. كل شيء بات لوحة سريالية بعد مايو 2000 حتى أن الجيش اللبناني الذي كان يفترض أن يمسك بالحدود مُنع من ذلك، لتبقى تحركات إيران وسوريا حرة من دون أي قيود، وسيستمر الوضع على هذا النحو حتى صيف 2006، عندما أدى خطف حزب الله لجنديين إسرائيليين إلى اندلاع حرب يوليو (تموز) التدميرية، التي انتهت بقرار مجلس الأمن رقم 1701، والإقرار أخيراً بحق الجيش اللبناني في الوصول إلى حدود بلده إلى جانب القوات الدولية .
لم يسعف الانسحاب الإسرائيلي ثم الانسحاب السوري، الذي أعقبه بعد 5 سنوات (أبريل 2005) إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، لبنان في استعادة سيادته واستقلاله في دولة تحكمها المؤسسات المنتخبة شعبياً، حسبما ينص الدستور والقوانين. بالعكس فقد أوغلت القوى الحليفة لإيران وسوريا في استعادة مناخات الحرب الأهلية منذ اغتيال الحريري وقبله، فاتسع شريط الضحايا من شخصيات ووجوه. كلها ترفض الهيمنة السورية والإيرانية، ليرد أنصار دمشق وطهران باتهام إسرائيل بقتل هذه الشخصيات.
مرَّ عقدان على انسحاب إسرائيل. في الأول منه فشل لبنان في استعادة وضعه الطبيعي كبلد سيد مستقل، وتحوّل بقيادة تحالف يترأسه حزب الله إلى ساحة تهيمن عليها حاجات النظامين الإيراني والسوري، خصوصاً بعد اغتيال الحريري وتوجيه الاتهامات إلى الجهتين، ثم ما أعلنته المحكمة الدولية عن مسؤولية عناصر في حزب الله عن الجريمة.
وفي هذا العقد امتحن حزب الله قدراته السياسية والشعبية والعسكرية في مواجهة اللبنانيين، وتوّجها في غزوة مايو 2008، مؤكداً قدرته على شل معارضيه بالقوة وهو ما سيمارسه لاحقاً .
وفي العقد الثاني بعد 2010، حاول الحزب أن يحسم الوضع السياسي الداخلي لمصلحة سلطة موالية في وقت مبكر، فأطاح حكومة سعد الحريري وهو يدخل البيت الأبيض للقاء الرئيس أوباما. إلا أن التطورات السورية لم تساعد الحزب وإيران في استكمال مقوّمات الانقلاب الداخلي.
لقد قررت إيران مبكراً الدخول الى جانب الرئيس بشار الأسد في حربه ضد معارضيه، واستنفرت حزب الله لهذه الغاية، وسيكون عليه اليوم أن يبرر تدخله في سوريا بحماية المراقد الشيعية، مثلما برر، وله الحق باستمرار الميليشيات والسلاح بحجة تحرير مزارع شبعا .
مثلما وقع في مايو قبل 20 سنةً تقف الأطراف جميعاً في الموقع السياسي ذاته :
إسرائيل لا تزال تدرس وتخطط لكيفية مواجهة انفجار على الجبهة الشمالية وقد ترابطت بقوة في ما بين جهاتها لتصبح جبهة سورية لبنانية متصلة .
النظام السوري يتمسك بضمانات 1974 التي قدمها لإسرائيل، وبضمان استمرار الهدوء في الجولان بدعم روسي حازم .
إيران تسعى إلى الاستفادة من حضورها على مقربة من الدولة العبرية (عبر حزب الله) لتحسين شروطها في أي تسوية أو صِدام محتمل، وليس من مصلحتها أن تقوم في لبنان سلطة جدية تمسك بالقرار السيادي، أو أن تقوم في سوريا دولة تمسك بالأرض، خصوصاً في المناطق الجنوبية.
لهذه الأسباب ولغيرها لم يسفر التحرير عن انتعاش النظام الديمقراطي المفترض في لبنان، وهذا هدف سيستمر السعي إليه، وتحقيقه مرتبط من دون شك بحصيلة صراعات المنطقة، وموقع إيران فيها تحديداً.