ملخص
اعتقدت إيران أن تكرار حروب غزة المحدودة من عام إلى آخر، أمر ممكن ويمكن توظيفه كنار هادئة تحت مرجل مساوماتها مع أميركا والغرب، الاعتقاد نفسه ساد إدارتها لحرب الإسناد التي كلف "حزب الله" بخوضها من لبنان دعماً لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، لكن كل ذلك ذهب هباء.
كان سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد تتويجاً لكارثة أصابت المشروع الإقليمي الذي عملت عليه إيران الخمينية منذ 45 عاماً، ولأن القيادة الإيرانية تعي تماماً معنى هذه الكارثة وحجمها فإنها تندفع في سلوك يختلف عن كل من يتعامل مع الحدث السوري، ساعية إلى تحويل سوريا الجديدة، ساحة لحروب أهلية مذهبية لا تنتهي.
من دون حافظ الأسد أولاً ومن بعده نجله بشار ما كان يمكن للمشروع الإيراني أن يقوى ويستمر ويتمدد إلى لبنان أولاً ثم في العراق ثانياً وبعدها إلى فلسطين وغزة ودول عربية أخرى.
صحيفة "كيهان" الإيرانية المقرّبة من المرشد علي خامنئي تحدثت الأسبوع الماضي عن فضل الأسد الأب على إيران فقالت إنه ضحى بمصالح سوريا من أجلها إبان الحرب الإيرانية العراقية، ومن جملة "تضحياته" إقفاله أنبوب النفط العراقي الذي يمر عبر سوريا ومنها إلى لبنان والذي كان ينقل مليون برميل يومياً من النفط الخام تتقاضى عليهم سوريا ثلاثة دولارات مقابل البرميل الواحد.
إقفال ذلك الأنبوب العابر لسوريا لم يضرب مصالح دمشق فقط بل أضر بلبنان حيث كانت مصفاة طرابلس اللبنانية تعمل على تكرير النفط العراقي الذي يصلها عبر أنبوب خاص من حمص فيما يتجه فرع آخر إلى مصفاة بانياس السورية.
الأسد الأب الخادم الأمين لإيران لم يضح بمصالح بلاده فقط في خدمة إيران بل ضحّى بمصالح لبنان، الذي سيطر عليه في سبعينيات القرن الـ20، للغاية نفسها. لا يزال الأنبوب والمصفاة في لبنان مقفلين حتى يومنا هذا فيما تحول البلد بأكمله منصة نفوذ إيرانية.
إغلاق الأنبوب العراقي في زمن صدام حسين كان نموذجاً لعمق العلاقة بين الملالي والنظام السوري البائد، ويمكن إيراد نماذج كثيرة في هذا المجال، عن ولاء النظام الأسدي وتبعيته لطهران، ما يكفي لتفسير الصدمة التي أصابت إيران ومرشدها علي خامنئي بعد سقوط العائلة التي فتحت أمام خلفاء الخميني الساحل العربي المطل على البحر المتوسط .
صعود "حزب الله" في لبنان وتعيينه "مقاوماً" أبدياً وحيداً لإسرائيل وممثلاً للولي الفقيه في بلاد الأرز كان بين الخدمات التي وفّرها الأسد الأمين، فهو ما كان ممكناً لولا السيطرة السورية على لبنان التي استمرت ما يقارب 30 عاماً.
رعى نظام الأسدين هذا الحزب وأورثه سلطاته لدى اضطراره إلى الخروج من لبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، مهّد له طريق السيطرة على الدولة ونقل إليه الأسلحة والصواريخ وجعله "درّة تاج" الإمبراطورية الخمينية، ووكيلها الأول دعماً وتسليحاً وتمويلاً، وعندما احتاج إليه خامنئي في لحظة الانتفاضة الشعبية السورية على الأسد، كان جاهزاً ليخوض معه حرب "ردّ الجميل" دفاعاً عن النظام "الذي بات يمثل مصالح إيران في المحافظة رقم 35".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أرسل خامنئي رجله قاسم سليماني مطلع عام 2012، بعد أشهر قليلة من اندلاع الانتفاضة السورية، لحماية نظام الأسد من انتفاضة شعبية سلمية، واستحضر الأخير على الفور ميليشيات "حزب الله" وزجها في المعركة ضد السوريين، ثم جاء بميليشيات شيعية أخرى من أنحاء العالم، وفي سوريا بالذات اختمرت فكرته عن محور المقاومة و"حلقة النار" التي ستحيط بإسرائيل فقدم تبريراً أيديولوجياً دينياً لتوطيد الحضور الإيراني في المشرق العربي.
أسفرت نظرية "حلقة النار" عن مغامرة "طوفان الأقصى"، اعتقدت إيران أن تكرار حروب غزة المحدودة من عام إلى آخر، أمر ممكن ويمكن توظيفه كنار هادئة تحت مرجل مساوماتها مع أميركا والغرب. الاعتقاد نفسه ساد إدارتها لحرب الإسناد التي كلف "حزب الله" بخوضها من لبنان دعماً لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، لكن كل ذلك ذهب هباء.
جلبت معركة "حماس" لغزة وللمحور الإيراني دماراً متسلسلاً شاملاً بدءاً من القطاع مروراً بلبنان وصولاً إلى سوريا والحضور الإيراني فيها.
وجهت إسرائيل المدعومة من أقوى تحالف دولي ضربات قاصمة لحركة "حماس" و"حزب الله" انتهت إلى توقيع الحزب ما يشبه وثيقة استسلام أمام إسرائيل وأميركا، وفي صبيحة اليوم التالي لتوقيع تلك الوثيقة كان نظام الأسد يحصي أيامه الأخيرة، وفي خلال أقل من أسبوعين انتهت سلطة 54 عاماً من الاستبداد و45 عاماً من التحالف الوطيد بين دمشق وطهران.
صُعقت إيران بالضربة السورية، حليفها الروسي سارع إلى محاولة استيعاب ما جرى، لكن المرشد الإيراني ذهب في اتجاه معاكس تماماً، لم ير في إسقاط الأسد تعبيراً عن إرادة شعب ذاق الأمرّين طوال نصف قرن، بل اعتبر انتصار السوريين خطة أميركية إسرائيلية تركية لضرب محور المقاومة المزعوم ودعا "الشباب السوري" إلى مواجهة السلطات الجديدة .
لم يترك خامنئي متسعاً من المناورة أمام حكومة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان التي تحدثت عن محاولات تواصل مع دمشق لإعادة العلاقات وفتح السفارة الإيرانية، وظهر ارتباك طهران في أبهى صوره مع محاولة مستشار بزشكيان الوزير السابق جواد ظريف تخطي "الهزيمة الإيرانية" ودعوته إلى إطار جديد يجمع دول غرب آسيا مع إيران تحت اسم منظمة "المودة" وكأنه يستبدل تعبير "المقاومة" العزيز على قلب المرشد بكلمة قريبة في بعض حروفها، في تلاعب لا يقف جوهره عند حدود اللفظ فقط، فليس بسيطاً أن يتم الانتقال من محور المقاومة بقيادة طهران إلى محور "المودة" باستراحة من إيران إياها، ولكن خامنئي وحرسه الثوري كانوا حسموا الأمر.
كرر الحرس مقولات الخامنئي عن سوريا ومثله فعلت هيئة الأركان العامة للجيش الإيراني، هؤلاء جميعاً يريدون حرباً في سوريا ويواصلون الحديث عن انتصارات المقاومة في لبنان وغزة، ومثل هذا الخطاب الإيراني لا يعني سوى التشجيع على حروب أهلية مذهبية في سوريا وتعقيد الوضع في لبنان واستمرار القتل من غير أفق في غزة .
لكنه خطاب إيراني معزول تماماً في الداخل والخارج، في الداخل تشتد أزمة النظام على وقع تردي الواقعين المعيشي والاقتصادي وفي الخارج يبدي العالم بأجمعه ترحيباً بالتطورات السورية ويحاول مواكبتها والتشجيع على إنجاز التحول الديمقراطي المأمول وبناء سوريا الجديدة. العالم العربي أيضاً يتحرك إلى احتضان التجربة السورية ورعايتها وحماية سوريا من التدخلات والأطماع، وفي السياق يأتي الموقف الخليجي وتنبيه جامعة الدول العربية لإيران من التدخل في شؤون البلد العربي.
تضيق خيارات طهران كما يضيق وقتها، وسط تهديدات إسرائيلية صريحة وعشية تولي دونالد ترمب مهماته الرئاسية في أميركا.
الأكيد أنها خسرت العمود الفقري لمحورها الإقليمي في أشهر قليلة، وأمامها مسارات مرة فإما شيء من مشروع "مودة" ظريف، أو الذهاب إلى تطبيق خطط التصعيد الخامنئية التي تبدأ بتخريب الجوار ولا تنتهي بتطوير البرنامج النووي، مما يعني المغامرة بالنظام نفسه الذي يأمل المرشد بالحفاظ عليه وربما توريثه على طريقة الأسد.