ملخص
يعاني اليمنيون من شلل "الشرعية" التي تقع عليها كامل المسـؤولية في إخراجهم من الهاوية السحيقة. وبينما ينشغل الناس في تدبير وجبة واحدة في اليوم، وفي ظل انهيار كامل لمنظومة الخدمات، تنهمك أجهزة "الشرعية" في حل نزاعات إدارية بين كبار موظفيها.
يعيش اليمنيون حقبة هي الأشد قتامة في تاريخهم منذ قيام الجمهورية في الشمال في 26 سبتمبر (أيلول) 1962 واستقلال الجنوب في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 على رغم ما مر بهم بعدهما من صراعات دامية، وسبب ذلك هو هزال القيادات التي تصدرت المشهد في عام 2011 وبعده. بعد ذلك تناثرت الرقعة الجغرافية وانزلقت البلاد إلى مسارات من دون ضوابط ولا قيود ولا قيادات راشدة.
الانتكاسة الحوثية
وجاء انقلاب جماعة "أنصار الله" الحوثية في 21 سبتمبر 2014 ليمثل انتكاسة على كل قواعد العمل الوطني وتتويجاً لمآلات الفوضى العارمة التي عصفت بالبلاد قبلها، وشكّل علامةً فارقة في تاريخ اليمن الحديث وأقحم البلاد في صراعات مناطقية ومذهبية وإقليمية وأخيراً دفع بها إلـى حرب خارج الحدود، جالباً الدمار والويلات وفاقم المآسي التي يعيشها اليمني المحاصر داخل البلاد والمشرد خارجها.
استغلت "الجماعة" السباق المحموم بين القوى التي زعمت أنها ستقود البلاد إلى "يمن جديد" لكنها في الواقع تفرغت للاستيلاء على أكبر حصة ممكنة في مؤسسات الدولة والاستحواذ على كل ما تمكنت من الوصول إليه. حدث ذلك في وقت تعطلت كل أجهزة الرقابة والمحاسبة تحت شعار "التوافق" الذي صار في الواقع معبراً عن عدم القدرة على الحسم والإنجاز، في حين انشغلت قيادات القوى الحزبية في ترتيب أوضاع مناصريها بعيداً من الكفاءة والتجربة.
وسط هذا الانهماك والانصراف لتدبير المصالح الذاتية، كانت "الجماعة" تنسج تحالفات بالقوة والحيلة تمكنها من تحقيق مخططها للاستيلاء على مفاصل الحكم وتمكين عناصرها من السيطرة عليه، ثم إقصاء كل العاملين غير المرتبطين بها مذهبياً وعقدياً من الأجهزة الأمنية والعسكرية.
وفي الوقت الذي كانت "الجماعة" تحقق استقراراً نسبياً للأوضاع في مناطق وجودها، كان الطرف المقابل المعترف به ممثلاً للشرعية يعيش في دوامة لا تنتهي من الشلل، وكانت آثارها السلبية تتعاظم أمام أعين الجميع من دون أن يتمكن ممثلو "الشرعية" من لجم جماح التدهور السريع في قدرتها على التحكم في المناطق المسماة "محررة"، في إشارة الى تلك التي لم يعد للحوثيين نفوذ عسكري فيها.
فداحة الأخطار
أصبح اليمنيون حائرين وتحت رحمة طرف عابث لا يدرك فداحة الأخطار التي تمر بها البلاد جراء إقحامها في معركة لا يمكن لأحد التنكر لها، لكنه في الوقت ذاته غير قادر على تعديل مجراها ولا المساهمة المؤثرة فيها. لا تدرك "الجماعة" أن كل إمكاناتها لن تستطيع إنقاذ أهلنا في غزة وها نحن نرى حجم التدمير اليومي الذي تمارسه إسرائيل من دون أن يرف جفن العالم. ما تفعله "الجماعة" لن يغير في موازين القوى ولن يوقف إبادة الفلسطينيين والأهم أنه يعطي ذريعة لإلحاق أكبر الضرر ضد من يفكر في تهديد إسرائيل تحت غطاء كذبة كبرى يسمونها "الدفاع عن النفس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شلل الشرعية
في المقابل يعاني اليمنيون من شلل "الشرعية" التي تقع عليها كامل المسـؤولية في إخراجهم من الهاوية السحيقة. وبينما ينشغل الناس في تدبير وجبة واحدة في اليوم، وفي ظل انهيار كامل لمنظومة الخدمات، تنهمك أجهزة "الشرعية" في حل نزاعات إدارية بين كبار موظفيها. لا يبدو في الأفق أن تحسناً سيطرأ على حاضر اليمنيين، أما المستقبل فلا أخطئ إن قلت إنه ليس في حسبانهم.
يقع اليمنيون في حيرة من أمرهم، فالسلطة في صنعاء لا تقوم بما عليها من التزامات تجاه المواطنين وتحول العيش تحت سلطتها إلى معاناة من شظف العيش والانتقاص من حقوقهم المدنية وقمع حرياتهم وانقطاع مرتباتهم منذ عام 2016. أما السلطة في عدن فلا تتواجد بين الناس إلا لفترات متقطعة ولم تتمكن من انتزاع ثقتهم في قدراتها على النهوض بالمناطق البعيدة من سيطرة "الجماعة".
تعطيل الملاحة
في لقاءات جمعتني أخيراً مع عدد من الدبلوماسيين الغربيين كان جل حديثهم عن احتمالات السلام في اليمن، وكان جلياً في أحاديثهم أن استمرار "الجماعة" في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ والمسيرات، أمر لا يمكن السماح به، وأن خريطة الطريق معطلة لأنها صارت مرتبطة بما يحدث في غزة والبحر الأحمر. ما لا يخفيه الدبلوماسيون هو ضيقهم من أداء "الشرعية" وكثرة غيابها الذي يقولون إنه غير مبرر عن عدن، وإن تقارير الفساد صارت مزعجة للمانحين والداعمين وستكون نتائجها وخيمة بانقطاع الدعم عنهم جميعاً، وأنهم أبلغوا كبار المسـؤولين بذلك.
مأزق اليمنيين هو البحث عن قشة يتمسكون بها فـ "الجماعة" في صنعاء غير منشغلة بهم وتلهيهم بأفعال غير مجدية خارج الحدود وتتوقع منهم الرضا عن ذلك واعتباره بديلاً عن الخدمات والمرتبات. وفي "عدن" صراع حول النفوذ والسيطرة في الأرض وكلاهما بعيدان كل البعد من حاجات الناس واستقرارهم وتأمين لقمة يومهم.
اليمن يحتاج إلى "سلطة" مستمدة من رضا الناس ورغبتهم، وإذا تحقق له ذلك فإن الخروج من الهاوية يصبح ممكن الحديث عنه عوضاً عن التلهي بالصواريخ والمسيرات، وبالصور والبيانات والاجتماعات العبثية التي تتشاغل في فك الاشتباكات وفتيل الصراعات الشخصية التي تصب كلها لمصلحة ديمومة معاناة اليمني في الداخل وفي الخارج.