إضافةً إلى المشكلات التي كان يعاني منها الاقتصاد التركي خلال السنوات القليلة الماضية، أضافت جائحة فيروس كورونا المزيد من الأزمات في وجهه، فلا تتوقف الحال على أزمة بطالة أو ركود عنيف في سوق التطوير العقاري، ولكن هناك أزمة قائمة بالفعل منذ عام 2018 في ما يتعلّق بصرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، إلى جانب أزمة الديون المتفاقمة والعجز الكبير، سواء في الموازنة العامة أو العجز التجاري.
وأظهرت بيانات حديثة أن الصادرات التركية تراجعت بنسبة 41 في المئة تقريباً في مايو (أيار) وأن العجز التجاري اتّسع بشكل حادّ في ظل تأثير جائحة كوفيد-19، لكن وزيرة التجارة في الحكومة التركية روهصار بكجان، قالت إنّ الأسوأ انتهى مع ارتفاع الصادرات على أساس شهري.
وتراجعت التجارة مع بعض شركاء تركيا الرئيسين في أوروبا والشرق الأوسط مع انتشار الوباء في جميع أنحاء العالم. وبدأت الصادرات، وهي مصدر أساسي للعملة الأجنبية في البلاد، الانخفاض بشكل حاد في مارس (آذار). وأظهرت البيانات أن الواردات انخفضت 28.2 في المئة إلى 12.79 مليار دولار، بينما انكمشت الصادرات بنسبة 40.8 في المئة إلى 9.43 مليار دولار في مايو (أيار) الماضي.
وكشفت التقديرات عن أن عجز تجارة تركيا نما بنسبة 78.7 في المئة على أساس سنوي إلى 3.36 مليار دولار في مايو الماضي، فيما أظهرت أخرى، انخفاض مبيعات سيارات الركاب والمركبات التجارية الخفيفة بنسبة 2.4 في المئة على أساس سنوي في مايو، كما تراجع حجم السوق إلى النصف في الفترة ذاتها من العام الماضي، عندما انزلق الاقتصاد التركي إلى الركود.
خسائر الليرة مقابل الدولار تتصدر الأزمات
وتشير الأرقام المتاحة إلى أن الأوضاع الاقتصادية في تركيا شهدت صعوبات كبيرة خلال الفترة الماضية، وإذا كان جزء من تلك المشكلات يعود إلى الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم ككل، في ظل التبعات الاقتصادية الناتجة من القرارات الاحترازية المتّخذة للتصدّي لفيروس كورونا على المستوى الدولي، من خلال إغلاق أنشطة اقتصادية عدّة، لكن هناك خصوصية للحالة التركية، لا سيما في ظل الأوضاع المالية التي تمر بها البلاد، وفي ظل التراجع الذي شهدته الليرة على مدار الفترة الأخيرة، وهي عوامل تسبّبت في فرض ضغوط تضخمّية كبيرة على الأسواق المحلية، ودفعت إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج في عددٍ من الأنشطة الاقتصادية في الدولة، كما أنها تفاقم من هشاشة الوضع المالي للحكومة والشركات التركية، في وقت ترتفع ديونها.
وأشارت دراسة حديثة أعدّها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تحت عنوان "ضغوط مالية كبيرة على الاقتصاد التركي"، إلى أنه من أجل تلافي هذ الصعوبات، فقد سعت تركيا إلى الحصول على دعم خارجي، لا سيما من الدول القريبة منها، ومن بينها قطر، كما أنها لجأت إلى دول أخرى كالصين، وقد لاقت مساعيها بعض الاستجابة، لكنها لم تكن استجابة كبيرة، بشكل يطرح تساؤلات حول مدى نجاحها في التغلّب على مشكلاتها الاقتصادية والمالية في الوقت الحالي.
وتطرقت إلى أن هناك مظاهر عدّة للأزمة المالية التي تعيشها تركيا في الوقت الراهن، أهمها التراجع غير المسبوق في قيمة عملتها، الذي استمر منذ أغسطس (آب) 2019، حتى بدايات شهر مايو 2020، الأمر الذي أدى إلى تراجع سعر صرفها مقابل الدولار من 0.18 دولار لكل ليرة، في أغسطس 2019، إلى 0.14 دولار لكل ليرة في 5 مايو 2020، لتفقد بذلك نحو 22 في المئة من قيمتها. والأمر الأكثر أهمية والأكثر إبرازاً للأزمة التي تعيشها الليرة، هو أن وتيرة تراجعها تزايدت بشكل ملحوظ منذ مطلع شهر مارس 2020 حتى بداية مايو من العام ذاته.
في سوق الصرف، سجّلت الليرة التركية انخفاضاً أمام الدولار الأميركي، متخلّيةً عن بعض مكاسبها التي حققتها في تعافٍ من أدنى مستوى لها على الإطلاق الذي سجلته في مايو، وذلك بعد أن أظهرت بيانات زيادة أعلى من المتوقع في التضخّم الشهر الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخسرت الليرة حوالى 12 في المئة من قيمتها هذا العام بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا وسط مخاوف من استنزاف احتياطات البلاد من النقد الأجنبي وحاجات التمويل الخارجي. وهبطت الليرة بما يصل إلى واحد في المئة لـ 6.77 مقابل الدولار قبل أن تقلّص خسائرها إلى 0.7 في المئة عند مستوى 6.7435.
أزمة مالية عنيفة تقود إلى ارتفاع كبير في التضخم
إلى جانب تراجع قيمة الليرة، تواجه تركيا أزمة مالية أخرى، تتعلّق بانخفاص احتياطاتها من النقد الأجنبي، وإن كانت هذه الأزمة ترتبط بشكل أو بآخر بأزمة الليرة، إذ تضخّ الحكومة النقد الأجنبي في الدورة الاقتصادية بالبلاد لدعم قيمة العملة الوطنية، لكن هذه الأزمة لها طابعها الخاص أيضاً، لا سيما أنها ترتبط كذلك بقدرة الدولة على تأمين التمويل اللازم لأنشطة الاستيراد، إضافةً إلى تأمين النقد الأجنبي المتّصل بتمويل خدمة الدين الخارجي للبلاد، سواء الحكومي أو ديون الشركات.
في هذا الإطار، تراجعت احتياطات تركيا من النقد الأجنبي بمقدار 57 مليار دولار منذ أغسطس 2019 حتى أبريل 2020، ما يمثل نحو 39 في المئة من إجمالي الاحتياطات، التي انخفضت بدورها إلى 89.6 مليار دولار في نهاية أبريل.
وأشارت الدراسة إلى أن هناك مظهراً ثالثاً للأزمة المالية التركية، يرتبط بتضخّم مديونيتها الخارجية، التي تبلغ نحو 448 مليار دولار حالياً، ما بين ديون حكومية وديون شركات، ومن ضمن هذه الديون، هناك نحو 124 مليار دولار ديون قصيرة الأجل، يجب سدادها خلال السنة المقبلة، ما يضع الحكومة والاقتصاد بشكل عام أمام أزمة خطيرة. هذا إضافةً إلى ارتفاع معدل التضخّم السنوي إلى 11.39 في المئة خلال شهر مايو الماضي، ما يزيد صعوبة الأوضاع والازمات التي تواجهها الأسر المقيمة في تركيا.
أيضاً، يعاني قطاع الصناعة التحويلية في البلاد مشكلات كبيرة بدوره، وإن كان جزء منها مرتبطاً بالبيئة الاقتصادية العالمية الناتجة من فيروس كورونا وتداعيات الإغلاق شبه الكلي في دول عدّة، لكن هناك أسباباً محلية لتلك الصعوبات أيضاً.
في هذا الإطار، أظهر مسح لمؤسسة "آي إتش إس ماركت" أن مؤشر مديري المشتريات في قطاع الصناعة التحويلية في تركيا انكمش بشكل كبير في مايو الماضي، فعلى الرغم من ارتفاع قيمة هذا المؤشر إلى 40.9 نقطة في مايو، مقارنة بنحو 33.4 نقطة في أبريل، إلّا أنّه ظل دون مستوى الخمسين نقطة، أي المستوى الذي يفصل بين النمو والانكماش. ويعني بقاء المؤشر عند هذا المستوى أن ناتج القطاع يشهد انكماشاً بنحو 10 في المئة، كما يعاني القطاع مظاهر تأزّم أخرى، تتمثل في إقبال الشركات على خفض الوظائف، استجابةً للتراجع الكبير الذي تشهده طلبيات التوريد الجديدة.
إلى جانب ذلك، فإن معاناة قطاع الصناعة في تركيا لها أسباب أخرى ترتبط بالأوضاع المحلية، إذ تشير البيانات إلى أن تكلفة مستلزمات الإنتاج الصناعي للشركات سجّلت ارتفاعاً كبيراً خلال الفترة الماضية، بسبب التراجع في قيمة الليرة، الذي أدى إلى صعود أسعار السلع الوسيطة. ولا يُتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تحسّناً يُذكر في هذا الإطار، لا سيما أن قيمة الليرة على الرغم من ارتفاعها خلال الأسابيع الماضية، يُرجّح أن تظلّ قريبة من مستوياتها المنخفضة، الأمر الذي يُبقي تكلفة القطاع الصناعي عالية.
خيارات محدودة للخروج من الأزمة
وسط هذه الصعوبات المالية، التي بدأت تمسّ الأنشطة اليومية في الاقتصاد التركي، فإن الخيارات المتاحة أمام الحكومة تبقى محدودة للغاية، لا سيما في ظل جائحة كورونا، التي تحرمها من معظم إيرادات التصدير وجميع إيرادات السياحة الخارجية. لذلك، سعت أنقرة خلال الفترة الماضية إلى تدبير النقد الأجنبي في أسرع وقت ممكن، وقد أجرى مسؤولو وزارة الخزانة والمالية والبنك المركزي في تركيا محادثات مع نظرائهم في اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة بشأن إنشاء "خطوط مبادلة عملات"، ومع قطر والصين بشأن زيادة حجم خطوط مبادلة مماثلة قائمة.
وتحاول تركيا من خلال الاتفاقيات المستهدفة مع تلك الدول الحصول على المزيد من العملات الأجنبية، عبر آلية تبادل العملات، التي تقضي بأن تودِع الدول الأطراف، عملاتها المحلية في بنوكها المركزية بالتبادل. وبذلك، تحصل أنقرة على أرصدة جديدة لدى بنكها المركزي من عملات الدول المستهدفة، مقابل إيداعها الليرة في بنوك تلك الدول، ما من شأنه أن يدعم سعر صرف العملة الوطنية.
وعلى الرغم من الطموحات التركية الكبيرة في هذا الإطار، فإنّ مساعيها لم تجد ردوداً إيجابية سوى من قطر، التي رفعت قيمة برنامج مبادلة العملة معها من 5 مليار دولار ضمن الاتفاق الذي كان قائماً بين الدولتين، إلى 15 مليار دولار، لكن لم تعلن أي دولة أخرى من الدول المستهدفة أي اتفاق مع أنقرة، ما يضع الاقتصاد أمام تحدٍ خطير، خصوصاً مع اقتراب موعد استحقاق الديون قصيرة الأجل.
لكن نجاح مساعي تركيا للتغلّب على الأزمة لا يرتبط فقط بما يمكن أن تحصل عليه من نقد أجنبي من الدول المتحالفة معها، بل يعتمد ذلك أيضاً على انتهاء أزمة كورونا وعلى قدرة الاقتصاد على الحصول على الإيرادات الخارجية ذاتها من خلال أنشطة التصدير والأنشطة السياحية، كما كان ذلك متحقّقاً في الظروف الطبيعية، وقد يحتاج كل ذلك إلى وقت طويل.