قبل أيام أرجع مسؤولو حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تدهور الاقتصاد إلى المؤامرات الخارجية. وقال نائب رئيس الحزب نعمان كورتولموش، إن البلاد "تتعرض لهجوم عالمي" رداً على سؤال يتعلق بتخفيض قيمة الليرة التركية، التي بلغت 7.26 مقابل الدولار الأميركي قبل أن تستعيد بعضاً من قيمتها وتبلغ 6.99 دولار، في تعليقات تهدف لتبرير الممارسات الاستبدادية في الداخل بداعي مواجهة عدو خارجي.
ومنذ أشهر تواجه تركيا مشكلات اقتصادية صعبة ناتجة عن العديد من السياسات الحكومية التي قابلت انتقادات واسعة من قبل الخبراء في الداخل والخارج، أهمها التدخل السياسي في الأنظمة المالية بالبلاد، وفشلها في تقليص ديون العملات الأجنبية المتضخمة، وجذب الاستثمارات الخارجية اللازمة لتمويلها. ربما زاد من حدة الأمر، انتشار فيروس كورونا، حيث تأتي تركيا بين الدول الثماني الأولى التي تصارع المرض القاتل.
وضع اقتصادي متفاقم
في حين كانت الأزمة الاقتصادية بالبلاد تلوح في الأفق حتى قبل أن يجتاح الوباء البلاد، كشف انتشار الفيروس سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي تركت الاقتصاد في حالة ضعف كبيرة. إذ أدى تفشي المرض إلى تفاقم معدلات البطالة والتضخم المرتفعة بالفعل، ووحد معارضته السياسية، كما أثار مخاوف جديدة بشأن سياسات الاستثمار الضخم في مشروعات البنية التحتية العملاقة، التي حذر محللون منذ فترة طويلة من أنها باهظة التكلفة ولا يمكن تحملها.
وفقاً لتقديرات نشرها وكيل وزارة الخزانة التركي السابق محفي إيجلميز، فإن صافي احتياطيات تركيا من العملات الأجنبية يقرب من 16.2 مليار دولار، ومع ذلك، يشمل هذا الرقم مقايضات العملات التي تم الدخول فيها مع البنوك المحلية. بمجرد طرحها، يصبح صافي احتياطي العملة في المنطقة السلبية عند -13.4 مليار دولار تقريباً. وفي الوقت نفسه، لدى تركيا ما يقرب من 170 مليار دولار من الديون التي يتعين سدادها أو تجديدها في الأشهر الـ12 المقبلة.
وكتب الاقتصادي الأميركي براد سيتسر، في مقال على مدونة لمجلس العلاقات الخارجية الأميركية، "إن السحر الذي يجعل النظام المالي في تركيا مستمر منذ فترة طويلة هو سوق تبادل العملات الأجنبية". وكشفت وكالة رويترز، الخميس، أن الحكومة طلبت مساعدة حلفاء أجانب في إطار بحث عاجل عن التمويل. وقال ثلاثة مسؤولين أتراك كبار إن مسؤولي الخزانة والبنك المركزي أجروا مباحثات ثنائية في الأيام الأخيرة مع نظرائهم من اليابان وبريطانيا بشأن إنشاء خطوط مبادلة عملة، ومع قطر والصين بشأن زيادة حجم تسهيلات قائمة.
وفي تعليقات لموقع ماركت ووتش، قال أحد الاقتصاديين الأتراك، الذي رفض الكشف عن اسمه لتجنب رد فعل عنيف من الحكومة، "يستخدم البنك المركزي الاحتياطيات لإبطاء انخفاض قيمة العملة. وفي الوقت نفسه، السياسات التي يكون فيها سعر الفائدة الحقيقي سلباً تجعل العملة المحلية غير جذابة والسياسات الأخرى لا تغرس الثقة. من الواضح للغاية أن الجميع على حافة الهاوية ويخشون حدوث شيء ما".
تركيا ستتخطى الأزمة
هذا الوضع المتداعي، دفع أردوغان إلى تكثيف خطاب المؤامرات، مواصلاً إلقاء اللوم على ما يسمى بالقوات الأجنبية العازمة على إسقاط الاقتصاد. وقال، "نحن على دراية تامة بوضع الفخاخ"، وهو ما تزامن مع رفع الهيئة التنظيمية المصرفية حظراً استمر أربعة أيام فرضته على تداول مصارف "سيتي غروب"، و"سويس بنك يو بي إس" و"بي إن بي باريبا" بالليرة.
لكن وزير المالية والخزانة التركي وصهر أردوغان بيرات البيرق، قال في لقاء عبر الفيديو كونفرانس مع أعضاء مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية، إن نسبة ديون تركيا من بين أدنى المعدلات، وأن بلاده ستتخطى هذه الأزمة بكل أريحية.
وأضاف، إن قدرة تركيا على تمويل الانتعاش الاقتصادي تعززت من خلال انخفاض صافي الدين العام إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي، الذي بلغ 32.5 في المائة من الدخل القومي، وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي.
مزيد من الاستبداد
ويشير خبراء إلى أنه جراء الوضع الاقتصادي المتفاقم، يتجه النظام إلى مزيد من الاستبداد. وقال كمال كيريسي، الزميل لدي معهد بروكينجز للأبحاث، إن الأولويات السياسية لأردوغان شكلت إدارته للأزمة التي تواجهها البلاد، بإدامة حكم الفرد الواحد من خلال إنقاذ الاقتصاد وإبقائه على رضا قاعدته الدينية المحافظة سعيدة.
وأضاف في مقال نشره المعهد بعنوان، "فيروس كورونا يقود إلى مزيد من الاستبداد في تركيا"، إن سياسات أردوغان وخطابه يشيران إلى أن البلاد يجب أن تتوقع المزيد من نفس السياسة الاستبدادية، بينما لن يساعد ذلك في حل المشكلات الاقتصادية والسياسية المستمرة في تركيا التي تفاقمت بسبب الوباء.
وأوضح أن النظام الرئاسي للحكومة، الذي أنشأه أردوغان في عام 2014 وأضفي الطابع الرسمي عليه في عام 2018 ركز جميع السلطات في يده، مما أدى إلى تآكل الضوابط والتوازنات التقليدية المرتبطة بالحكم الديمقراطي. وبينما يزيد فيروس كورونا من تفاقم مشكلات الحوكمة ونظيرتها الاقتصادية في البلاد، فإن هذه التطورات الثلاثة تدعم مواصلة أردوغان لتعزيز حكمه الفردي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع الباحث التركي، أن إحدى النتائج المهمة لاستبداد أردوغان المتزايد ومركزية السلطة هو إضعاف المؤسسات التركية. ففي حين ضعفت الوكالات الحكومية التركية بالفعل بشكل ملحوظ، كشفت أزمة كورونا كيف عانت المنظمات المهنية أيضاً. على سبيل المثال، فإن الاتحاد الطبي التركي، الذي اشتهر منذ فترة طويلة بمهنيته وانتقاداته البناءة لسياسات الحكومة، تم استبعاده من المجلس الاستشاري الذي أنشأه وزير الصحة، وحرمه من إمكانية صياغة السياسات.
وفي عام 2011، أغلقت الحكومة معهد تطوير وإنتاج اللقاحات الوحيد في تركيا، على الرغم من المقاومة والتحذيرات الكبيرة. وكان قد تم إنشاء المعهد عام 1928، وطور سمعة ذات شهرة عالمية لعمله. وبالمثل، قوبل إغلاق المستشفيات العسكرية ومصانع الأدوية التابعة لها بانتقادات من الخبراء.
يقول كيريسي إن إغلاق هذه المؤسسات حرم تركيا من البنية التحتية والمعرفة العلمية والخبرة اللازمة للمساهمة في مكافحة جائحة كورونا وتطوير لقاح لها.
وقال الكاتب التركي قدري جورسيل، وسط تفاقم الاضطرابات الاقتصادية التي تعانيها تركيا وانتشار وباء كورونا، وجد حزب الشعب الجمهوري، المعارض الرئيس، نفسه متهماً بالتحريض على الانقلاب، في هجوم جديد من قبل أعضاء الحكومة ووسائل الإعلام المحسوبة على النظام. موضحاً أن تغذية مناخ من الخوف من الانقلاب يمكن أن يخدم مصالح الحكومة بعدة طرق؛ الأول إرساء أرضية شرعية لحكم أكثر استبدادية ضد احتمال وجود معارضة شعبية متهورة في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية العميقة.
والهدف المحتمل الآخر هو تنشيط القاعدة الشعبية للحكومة، التي أضعفتها الأزمة الاقتصادية، وحشدتهم حول أردوغان عن طريق الاستقطاب ومخاوف الانقلاب. كما يمكن استخدام تهديد انقلابي وهمي أيضاً لتأجيل مطالب التغيير السياسي، التي قد يسعى إليها الشعب. وأخيراً، فإن نزع الشرعية عن حزب الشعب الجمهوري وقمعه قبل الدعوة إلى انتخابات مبكرة يمكن أن يكون حساباً آخر وراء إثارة مخاوف الانقلاب.