بخلاف التداعيات العنيفة التي خلّفها فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد الأميركي، جاءت الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت في الولايات المتحدة قبل أيام، لتضع الاقتصاد الأميركي في مواجهة صعبة مع أخطر أزمة اقتصادية خلال الـ100 عام الأخيرة.
ويكفي أن يتقدّم أكثر من 24 مليون أميركي بطلب للحصول على إعانة البطالة خلال الأيام الماضية، للتدليل على حدّة وخطورة الأزمة التي يواجهها الاقتصاد الأميركي، التي تعصف بالفعل بخطط الرئيس الحالي دونالد ترمب في الفوز بولاية ثانية لرئاسة البيت الأبيض.
وبخلاف الديون الضخمة التي ارتفعت في عهد ترمب فقط بأكثر من أربعة تريليونات دولار، فإن معدلات البطالة بالسوق الأميركية سجّلت أعلى معدل لها في أكثر من 50 عاماً، إضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة، ومستوى النفط المنخفض الذي تسبب في إغلاق آلاف من شركات النفط الصخري الأميركية، كما تسببت الاحتجاجات الأخيرة في إضافة أزمة جديدة إلى القائمة الطويلة التي يواجهها بالفعل الاقتصاد الأميركي في الوقت الحاليّ.
ضحايا أقل في فترات انتشار الأوبئة السابقة
ويشير تحليل وكالة "بلومبيرغ أوبينيون"، إلى أنّ اقتصاد الولايات المتحدة تضرر في الوقت الحالي بصورة أكبر من الأضرار التي لحقت به خلال فترة ظهور وانتشار الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت قبل 100 عام من الآن. إذ إنه خلال عامي 1918 و1919، انتشر ما تسمّى بـ"الإنفلونزا الإسبانية" التي بدأت بالفعل في مكان آخر ربما في النمسا أو كانساس عن طريق تحرّكات الجيوش في الحرب العالمية الأولى، ما أسفر عن وفاة ما يتراوح بين 17 مليوناً و100 مليون في جميع أنحاء العالم. ويشمل هذا الرقم 675 ألف حالة وفاة بالولايات المتحدة، وهو ما يعادل تقريباً مليوني نسمة عند المقارنة على أساس عدد السكان اليوم، بالقرب من الحد الأقصى لتقديرات الوفيات المحتملة جراء كورونا.
وبطبيعة الحال، تلحق هذه الكارثة الضرر بالاقتصاد، لكن الإنفلونزا الإسبانية، بخلاف "كوفيد 19"، كانت تميل إلى قتل الناس في العشرينيات والثلاثينيات من العمر. إضافة إلى ذلك، استجاب كثير من الولايات الأميركية لهذا التهديد بالطريقة نفسها المتبعة حاليّاً، وهي التباعد الاجتماعي. ويشمل ذلك إغلاق المدارس والكنائس وحظر التجمعات الجماهيرية، وفرض ارتداء الأقنعة وغيرها من القيود.
وأضرّ مزيج من الخوف من الفيروس والتدخلات الحكومية بشدة البيع بالتجزئة وغيرها من الأعمال التي تعتمد على المستهلكين الذين يتوافدون على المتاجر ومراكز التسوق التجارية، كما الحال اليوم.
ويوثق تقرير صادر عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2007، عديداً من حالات التجار الذين فقدوا أعمالهم في "ليتل روك" و"أركنساس" و"ممفيس" و"تينيسي". لكن بطريقة ما، نجحت البلاد حينذاك في تفادي الكساد العميق خلال السنوات التي أعقبت الوباء مباشرة، بينما ارتفع معدل البطالة لأعضاء النقابات العمالية قليلاً.
تداعيات ومخاطر كورونا هي الأعنف
البيانات المتاحة تشير إلى أن الإنتاج الصناعي كان صامداً بشكل جيد في عام 1919، كما أنّ الركود الاقتصادي الذي وقع في عامي 1920 و1921 الناجم على الأرجح عن تسريح الجنود في الحرب العالمية الأولى أكثر من الفيروس، عكس اتجاهه سريعاً، ليتحوّل إلى قفزة تسمّى بـ"العشرينيات الهادرة".
ويبقى السؤال: لماذا لم تدمِّر الإنفلونزا الإسبانية الاقتصاد الأميركي كما فعلت جائحة فيروس كورونا؟ وفقاً للتحليل، فإنه من المغري استنتاج أن عمليات الإغلاق في العصر الحديث هي ببساطة أكثر شدة من تدابير التباعد التي فرضت في عام 1918. لكن على الرغم من أن البيانات بشأن هذه الحقبة غير مكتملة، فإن الحكايات الواردة في تقرير الفيدرالي بولاية سانت لويس تشير إلى أن شركات البيع بالتجزئة عانت بشكل هائل، تماماً مثلما هي الحال الآن.
وكان الخوف من الفيروس لا القيود الحكومية على الأرجح هو المحرِّك الأكبر للخسائر في إيرادات الشركات، كما الحال اليوم. وكان العامل الأكثر أهمية يتمثل في الاختلاف في هيكل الاقتصاد. ومنذ قرن مضى، كان أقل من نصف العمال يعملون في صناعات الخدمات، لكن الآن هذه النسبة أصبحت 86 في المئة. كما أنّ مجالي الصناعة والزراعة كانا أقل عرضة للوباء من بيع التجزئة والشركات الأخرى التي تعتمد على توافد كثير من العملاء.
وكان تأثير اقتصاد الحرب عاملاً ذا صلة، فكما أشار بعض متخصصي الاقتصاد، كانت الحرب العالمية الأولى ذات تأثيرات هائلة في الإنتاج عام 1918. وببساطة، طالبت الحكومة المصانع بالبقاء مفتوحة من أجل تلبية حاجات الحرب. ومن المرجّح أن هذا الوضع أسهم في جعل الوباء سيئاً، لكنه قلل من ضربته الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وبحلول الوقت الذي بدأ الاقتصاد يتحوّل فيه مرة أخرى نحو الصناعات في وقت السلم، كانت الإنفلونزا قد اختفت.
تطوّر الاتصالات يزيد من عمق الأزمة
أمّا العامل الثالث فيكمن في الاتصالات، إذ يمكن للأميركيين من كل الطبقات الاجتماعية الحصول على المعلومات التي يحتاجون إليها حول فيروس كورونا من خلال بضع نقرات على هواتفهم الذكية، أو تشغيل محطات التلفزيون، لكن لم يكن أي من هاتين الوسيلتين متاحاً في عام 1918.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبسبب الرقابة الصارمة في زمن الحرب، كانت الصحف تخشى في الغالب كتابة أخبار بشأن الوباء، حتى لا يُنظر إليها على أنها غير وطنية. وفي واقع الأمر، يسمّى الفيروس بالإنفلونزا الإسبانية فقط، نظراً إلى أنّ إسبانيا كانت دولة محايدة في الحرب العالمية الأولى، بالتالي سُمِح للصحف بكتابة حصيلة الوَفَيَات الوطنية المروعة. ومن المحتمل أن يدفع قمع المعلومات في الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى الناس إلى الخروج والتسوّق بدرجة محتملة أكثر، حتى على حساب عديد من الأرواح.
ويمكن أن تكون تكلفة الفرصة البديلة عاملاً رابعاً، إذ إن عالم اليوم أكثر ثراءً من عالم 1918، ما يعني أن معظم ما ينفق للشراء يتكوّن من عناصر غير ضرورية مثل وجبات المطاعم أو أجهزة إلكترونية جديدة. وكانت نسبة أعلى من التسوّق الذي قام به الأميركيون قبل قرن مضى للعناصر الضرورية المنزلية والبقالة، وهي أشياء لم يستطع الناس التخلي عنها بضعة أشهر.
وفي ما يتعلق بفترة ما بعد انتهاء الوباء، يستشهد بنك الفيدرالي في ولاية سانت لويس بالبحوث التي تظهر أن الإنفلونزا الإسبانية أدّت فعلياً إلى زيادة النمو في الولايات الأكثر تضرراً، ربما عبر دفعها نحو أنماط إنتاج أكثر كثافة في رأس المال، وسيكون الوضع المكافئ اليوم هو التحول نحو مزيدٍ من الأتمتة، وتعافت بعد ذلك أيضاً المدن التي جرى إغلاقها بشكل أسرع وأكثر فعالية بسرعة أكبر.
لماذا تدوم أضرار كورونا فترة أكبر؟
في الوقت نفسه، سيميل عاملان على الأقل إلى جعل الضرر الاقتصادي الناتج عن وباء كورونا يدوم فترة أطول من تلك التي خلّفتها الإنفلونزا الإسبانية. يتمثل العامل الأول في تراجع سلاسل التوريد الدولية في كل أنحاء العالم، إذ من المحتمل أن يشجّع الوباء الدول على خفض الإنتاج في الخارج مستقبلاً الآن بعدما أدركوا المخاطر، وهو التحوّل الذي سيكون باهظ التكلفة، بل ومؤلم.
أمّا العامل الثاني فيتعلق بأن المستهلكين والشركات يتمتعون بديون من الرافعة المالية أعلى مما كان الوضع عليه قبل قرن مضى، وقد يؤدي مزيج من هذا الدين والصدمة الاقتصادية للوباء إلى إحداث حالة ركود في الميزانية العمومية.
وركود الميزانية العمومة عبارة عن أحد أنواع الركود الاقتصادي الذي يحدث عندما تدفع المستويات المرتفعة من ديون القطاع الخاص الأفراد أو الشركات للتركيز بشكل جماعي على الادخار عن طريق سداد الديون، بدلاً من الإنفاق أو الاستثمار، الأمر الذي يؤدي إلى تباطؤ أو انخفاض النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الخسائر البشرية لفيروس كورونا من المحتمل أن تكون أقل من تلك التي سببتها الإنفلونزا الإسبانية، إلا أنّ التكلفة الاقتصادي قد تكون أكبر وتدوم فترة أطول. وببساطة، فإن اقتصاد عام 2020 أكثر ضعفاً أمام الأوبئة من اقتصاد عام 1918.