يظهر أنّ دونالد ترمب يبني سوراً، أو بالأحرى، ينصب سياجاً عريضاً أسود اللون حول البيت الأبيض، وذلك بعد تسليطه الجيش على المواطنين.
أما ويليام بار المدّعي العام، فيُشكل فريقه الخاص من الشّرطة السّرية بعدما أمر الضّباط الفيدراليين الذين لا سلطة له عليهم، باستخدام القوّة ضدّ المواطنين الأميركيين.
والآن حانت لحظة جو بايدن الحاسمة، فإن لم يتمكّن نائب الرّئيس اللطيف والشّغوف من فرض سيطرته على انتخابات العام 2020 في خضمّ هذا الكمّ الهائل والمُفاجئ من الأزمات الاقتصاديّة والصّحية والاجتماعيّة والعنصريّة، الأرجح أنه لن يحظى بفرصةٍ أفضل مستقبلاً. كان الخطاب الذي ألقاه في فيلادلفيا يوم الثلاثاء الماضي وأدان فيه الأفعال التي ارتكبها الرّئيس مساء الإثنين، بداية راسخة. فكلّ كلمة قالها كانت محسوبة وواقعية، لكنّها لم تخلُ من التّفاؤل والأمل على الرغم من الظّروف القاتمة التي تمرّ بها البلاد. وكان ظهوره رئاسياً وكذلك نبرته، أو غلب عليهما ما كنّا نعتبره رئاسياً منذ فترةٍ غير طويلة.
يتصدر بايدن الاستطلاعات في أوهايو حالياً. لكنّه في موضع تعادل مع ترمب في تكساس، معقل الجمهوريين منذ زمن طويل. أما في جورجيا، فيُنافس بشراسة وحظوظه بالفوز كبيرة.
إن لم يكن الآن يا جو بايدن، فمتى؟
استيقظت واشنطن صباح الخميس بعد ليلةٍ هادئة من الاحتجاجات التي حشدت أكبر عددٍ من الناس حتى ذلك التاريخ، على وقع مشاهد سوريالية لمجموعة من العمال وهم يُفرغون قطع سياج كبيرة سوداء اللون من شاحنات مركونة جانباً ويبنون سوراً من حواجز إسمنتية يصل ارتفاعها الى مستوى خصر الإنسان، حول المجمّع التنفيذي للبيت الأبيض الذي يمتدّ على مساحة 18 هكتاراً.
أتت هذه المشاهد في أعقاب وصول 10 حافلات مليئة بقوات مؤلفة من جنود عاملين مسلحين إلى العاصمة عصر الأربعاء. فترمب رغب في أن يؤدي هؤلاء مهمّة قمع الاحتجاجات، بعدما أشار المراسل كاتب هذه السطور يوم الأربعاء الفائت إلى رداءة الأداء البوليسي للبنتاغون (انظروا: أحداث أفغانستان والعراق).
ومن الممكن لبايدن أن يستفيد كثيراً لو أصرّ على الرّسائل التي وجهها عبر خطاب فيلادلفيا صباح الثلاثاء، ولاسيما بالنّظر إلى الطريقة التي تكلّم بها الرّئيس عن العسكريين والمحتجّين.
قال ترمب في خطاب حديقة الورود مساء الإثنين "لو رفضَت أيّ مدينة أو ولاية اتّخاذ التّدابير اللازمة لحماية سكانها وممتلكاتهم، فسأنشر الجيش الأميركي لحلّ المشكلة بالنسبة إلى السكان سريعاً". واللافت أنه وجّه في تلك الكلمة للقوات الأميركية نعوتاً معاكسة تماماً لتلك التي وصفهم بها حين كان مرشحاً للرئاسة منذ أربع سنوات.
وفي ما بعد، جاءت زيارة ترمب لـ"كنيسة القديس يوحنا الأسقفية" الكائنة قبالة "متنزه لافاييت" والتي ما كانت لتتمّ لولا تدخّل "جهاز الخدمة السّرية الأميركية" وعناصر "شرطة المتنزهات الأميركية" وقوات "الحرس الوطني" وإطلاقهم القذائف الدّخانية والرّصاص المطاطي على المحتجين والصّحافيين لتفرقتهم وتأمين الحماية الضّرورية كي يمرّ الرئيس.
بالطّبع، هناك من يحرّضون ضمن حشود المحتجّين الليلية؛ وهؤلاء المحرّضون هم المسؤولون عن حوادث النّهب المعزولة التي نُدينها بشدّة كما نُدين الخطوة التي قام بها ترمب مساء الإثنين وتدخّل المدّعي العام، بشكل يعتبر في أسوأ الأحوال خاطئاً وفي أحسنها مريباً للغاية، في كلّ ما يجري من تطوّرات داخل العاصمة.
وأبلغت النّاطقة الإعلاميّة باسم البيت الأبيض كايلي ماكيناني الصحافيين يوم الأربعاء "في ذلك الصّباح، قرّر المدعي العام توسيع محيط البيت الأبيض وقد جاء قراره سابقاً جداً لطرح فكرة زيارة الكنيسة ومناقشتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما الذي فعله الآن؟
تولّت عناصر نظامية من "جهاز الخدمة السّرية" و"شرطة المتنزهات الأميركية" مهمة إخلاء "شارع اتش" وتأمينه. والمعلوم أنّ الجهاز الأول تابع لـ"وزارة الأمن الوطني" والثاني لـ"وزارة الدّاخلية". لكنّ بار مسؤول عن "وزارة العدل" ولا يملك سلطة على هؤلاء الضّباط من قريب أو من بعيد. فهل يعني ذلك أنّهم نفذوا أوامر لا أساس قانونياً لها؟
قال أحد مسؤولي البيت الأبيض لصحيفة "اندبندنت" يوم الأربعاء الماضي "على حدّ علمي، المدّعي العام هو رئيس موظفي إنفاذ القانون في البلاد". وهذا، برأيي، ليس بالتّفسير الكافي. (واسمحوا لي هنا بأن أنوه إلى أنّ الرّئيس هو الذي يدعو نفسه كبير رجال الشّرطة، وأنّ إليزابيت وارن تنضم في العاصمة واشنطن إلى الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد؛ لكن هذا ليس موضوعنا).
يبدو ظاهرياً أن لاسلطة لبار على أيّ من عناصر الوكالات الحكوميّة المذكورة أعلاه، كما أن البيت الأبيض لم يقدم للرأي العام أيّ مستند موقّع من الرّئيس لتغيير هيكل القيادة الفيدرالي. في هذه الأثناء، وجد المدّعي العام، وهو محارب قديم ومحنّك من واشنطن، حلّاً بديلاً بإحضار مجموعة قوات من خمس وكالات مختلفة تخضع لسلطته وإشرافه، إلى العاصمة. ولما ظهر هؤلاء إلى العلن يوم الأربعاء، رفضوا الكشف عن هوية مرؤوسيهم وكانوا يرتدون بزّات من دون شارات تُعرّف عنهم على أنّهم عناصر فيدراليون.
وكتبت فانيتا كوبتا، الرّئيسة السابقة لقسم الحقوق المدنية في وزارة العدل الأميركية في تغريدة عبر "تويتر" موضحة أن "بار نشر أفراداً من "مكتب السّجون" ووكالات فيدرالية متعدّدة في الشّوارع، من دون أن يُزوّدهم بشارات تُعرّف عنهم ومن دون أن يُدرّبهم على التّعامل مع الاحتجاجات الحاشدة. وما يجري (في الولايات المتحدة) اليوم أشبه بنسج الخيال، باستثناء أنّه حقيقي وفعليّ".
وتعقيباً على كلامها، حذّرت المحامية السّابقة، جويس فانس، من دأب المدّعي العام بار على بناء "جيشه الخاص... وبما أنه ستكون لدى ترمب سلطة على هذا الجيش، أتمنّى على الكونغرس أن يتحرك فوراً لمنعه".
لكنّ تدخّل الكونغرس أمرٌ مشكوك فيه للغاية. صحيح أنّ اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين انتقدوا تحرّكات الرّئيس الأخيرة، لكنّ انتقاداتهم لم تكن مباشرة وجاءت بمعظمها عبر التّكتيك الشّجاع دائماً القائم على امتداح الجنرالات المتقاعدين الذين انتقدوا ترمب فعلاً. ويعني هذا أنّ النّاخبين وحدهم قادرون على كبح ترمب وبار. ولكنّهم بحاجة إلى بايدن ليأخذ بيدهم ويقنعهم بأنه سيتعامل مع الأزمات المستقبليّة بمزيد من التبصّر والتفكير الإستراتيجي والتّعاطف.
هكذا قال نائب الرّئيس السّابق يوم الثلاثاء إن "البلاد تصرخ طالبةً قيادة من النّوع الذي يوحّدنا ويجمعنا ويعترف بألم المجتمعات المخنوقة وحزنها العميق".
وأضاف "أعدكُم بأن لا أتاجر بالخوف والانقسامات. أعدكُم بأن لا أشجّع على الكراهية. وأعدكُم بأن أسعى إلى تضميد جراح العنصرية التي ابتليت بها بلادنا منذ زمنٍ طويل، وأن لا أستخدمها لأغراضي السّياسية... أعدكُم بأنني سأؤدي واجباتي وسأتحمّل مسؤولياتي كاملةً، وبأن لا ألوم الآخرين على ذلّاتي وأن لا أنسى يوماً أنّ العمل الرّئاسي لا يخصّني، بل يخصّكم أنتم".
وهذا صحيح بالتأكيد. لكن مع بذل ترمب جهوداً جبّارة لتوسيع المساحة التي تفصله جسدياً عن مواطنيه ومع انشغال المدّعي العام التّابع له في بناء قوّة من الشّرطة السّريّة، ستكون يا نائب الرّئيس، محطّ الأنظار والاهتمام في الأسابيع القليلة المقبلة.
في غضون السّنوات الماضية، كادت أحاديث واشنطن عن بايدن أن تقتصر على التساؤل عمّا إذا كان قادراً أم لا على الارتقاء إلى مستوى التحديات وتفادي الجراح التي أصاب بها نفسه. ونحن الآن على وشك اكتشاف الحقيقة.
© The Independent