عندما كتب الشاعرالفرنسي شارل بودلير(1821 ــ 1867) في خاتمة ديوانه الشهير "أزهار الشر" قائلاً: "أعطيتني وحلك وجعلتُ منه ذهباً"، فهو كان يقصد في هذه الجملة وحل العالم المحيط به الذي انتقده بعنف في الديوان المذكور الذي قوبل فور صدوره عام 1857 بانتقادات واسعة داخل المحيط الأدبي، بسبب "فجوره"، وبحكمٍ قضائي، للسبب نفسه، أجبر رائد الحداثة الشعرية على سحب عدة قصائد منه اعتُبرت "فضائحية".
وفعلاً، مَن يقرأ هذا الديوان المجيد يستخلص بسرعة البورتريه السلبي الذي يخطّه بودلير فيه لعصره "الدنيء" الذي لم يجلب له سوى الخيبات، كما كتب في قصيدة "المثال". لكن ماذا لو أن جملته هذه موجَّهة أيضاً وخصوصاً إلى أمه الإنجليزية كارولين دوفيس التي عانى معها الأمرّين طوال حياته، وشكّلت بالتالي المصدرالأول لسوداوية شخصيته وشعره؟ عن هذه الفرضية التي أهملها النقّاد يدافع الباحث والمترجم الفرنسي جان بافان في كتابه الذي صدر حديثاً عن دار "سوي" الباريسية بعنوان "سيناريو بودلير"، مدافعة لا يتّبع فيها نموذج البحث النقدي التقليدي الذي يقوم على تحليل الروابط التي جمعت بودلير بأمه وأثرها على كتاباته، بل يلجأ إلى شكل سيناريو فيلم خيالي لتسليط الضوء على هذه الروابط التي اختبرها بودلير كلحظات ألمٍ وخيبة.
في هذا السيناريو ــ الأدبي بامتياز ــ تنتظرنا مشاهد سريعة شيّدها بافان انطلاقاً من مختلف المعطيات المتوفِّرة حول موضوعه في سيَرة الشاعر وقصائده والرسائل التي تبادلها مع أمه. مشاهد لا يتجلى فيها فقط الموقع المهم لكارولين في حياة ابنها، بل أيضاً جهلها كلياً عبقريته، وحكمها السلبي الثابت عليه وعلى سلوكه من منطلق أخلاقي متزمِّت. وفي الوقت نفسه، تُظهِر هذه المشاهد أيضاً المحبة غير المشروطة التي كنّها بودلير لها طوال حياته، وفشله في كسب عطفها واحترامها، على رغم الجهد المضني الذي بذله في هذا السياق. فشلٌ يفسّر حتماً سوداويته وقراره استهلال ديوانه الشهير، "أزهار الشر"، بقصيدة "بَرَكة" التي يقول فيها:"عندما، بمرسوم من السلطات العليا/ ظهر الشاعرُ في هذا العالم الضَّجِر،/ أَشهرت أُمّه المذعورةُ والطافِحة بالتجديف/قبضتيها نحو الرَّب، الذي يُشْفِق عليها:/ــ آه ! لِمَ لم أَضَع عقداً من الأفاعي/بدلاً من إرضاعِ هذا المسخ!/اللعنة على ليلة الملذّات العابِرة/الّتي حمَلَت فيها بطني كفَّارتي!/ بما أَنك اخترتني من بين كلّ النساء/لأكونَ موْضِعَ اشمئزاز زوجي الحزين،/ولأنني لا أَستطيع رَمْيَ هذا الْمسخِ الضَّامِر/في النار، مثل رسالة حبّ،/سأصبُّ كراهيتك التي تُثقِلُني/عَلَى أداة شرورك اللعينةِ".
وليس من قبيل الصدفة استهلال بافان نصّه بمشهدٍ تدور أحداثه في الثاني من ديسمبر 1828. ففي ذلك اليوم تحديداً اختبر بودلير، وهو طفل في سن السابعة، عبثية الحياة، قسوتها وعدم قيمتها، حين شاهد أمّه تخضع طوعاً في منزلهما لعملية إجهاض مؤلمة من أجل التخلّص من الجنين الذي كان في أحشائها منذ ثمانية أشهر، فقط لإرضاء زوجها الجديد، الجنرال جاك أوبيك، الذي لم يكن يرغب في إنجاب طفلٍ منها قبل زواجهما، لخوفه من إمكان أن يضرّ ذلك بطموحاته العسكرية والدبلوماسية. جنرال "كان يعتبر الإنجاب علّة الحب، والحَبَل مرض عناكبٍ"، ولا يلبث أن يتسلّط على حياة بودلير بالتواطؤٍ مع أمه ورضاها.
وفعلاً، فور اقترانها بهذا الرجل، تدخل كارولين في فلكه وتتبنّى نظرته السلبية إلى ابنها وتلتزم بالقرارات الجائرة التي سيتّخذها في شأنه. حقيقة تتجلى مشهداً بعد آخر، وخصوصاً في المشهد الأخير الذي نراها فيه عجوزاً ووحيدة تعمل على ترجمة المقال الذي وضعه مواطنها الناقد الإنجليزي شارل سوينبرغ عام 1862 حول "أزهار الشر"، إلى الفرنسية، بطلب من الناشر ميشال ليفي الذي كان يتحضّر لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة لبودلير. مقال لن يمنعها طابعه المديحي الصائب من اتّخاذ قرار حذف هذه القصيدة أو تلك من أعمال ابنها، من منطلق مسيحي ضيّق وبحجة أنها ذات نبرة تجديفية.
ولا عجب إذاً في تشكيل هذه المرأة مصدر خيبة مؤلمة لبودلير طوال حياته. خيبة تفسر سخريته الثابتة من مشاعر الحب، وعدم ارتباطه بأي علاقة عاطفية جدّية، وتفضيله على ذلك عِشرة بائعات الهوى (جان دوفال وأبولوني)، كما تفسّر سوداوية "أزهار الشر" وشحنته الثورية والانتهاكية، من جهة، وكآبة كاتبه التي أسقطها كاملةً على مدينة باريس في ديوانه اللاحق، من جهة أخرى.
وفعلاً، تكسب نصوصٌ كثيرة من "أزهار الشر" دلالات جديدة، في موشور هذه العلاقة المستحيلة، خصوصاً تلك التي يتناول بودلير فيها سخرية الآخرين من الشاعر وإدانتهم له وعدم فهمهم أفعاله، كقصيدتَيّ "بَرَكة" و"القطرس"، أو النصوص التي يصوّر فيها سموّ فكره كمناورة لا بد منها للإفلات من الانتقادات التي كان يتعرّض لها، كقصيدة "ارتقاء"، أو النصوص السحاقية ("المجوهرات"، "ليسبوس"، "ليتي"، "نساء لعينات"...) التي إن دلّت على شيء فعلى علاقة كاتبها الإشكالية بأمه، من دون أن ننسى قصيدة "الإنسان والبحر" التي يقول فيها إن الإنسان والبحر متشابهان ولكن دائماً في حالة صراع، ويتجلى كل مغزاها حين نعرف أن كلمتيّ "بحر" و"أم" بالفرنسية (mer/mère) تتشاركان الجذر نفسه وتُلفظان بالطريقة نفسها.
لكن في "سيناريو بودلير" لا تحليل لأي قصيدة، بل فقط مشاهد واقعية معّبرة من حياة الشاعر تتعاقب من دون أي ترتيب زمني لتنير طبيعة علاقته بأمه. خيار يعترف بافان في فاتحة كتابه بأنه استوحاه من كتاب هارولد بينتر "سيناريو بروست" الذي ترجمه إلى الفرنسية عام 2003 وحثّه أيضاً على وضع بحثٍ مثير نجده خلف "سيناريو بودلير" في كتابه، ويعمد فيه إلى استخلاص أوجه الشبه والاختلاف بين بودلير وبروست في ضوء علاقة كلّ منهما بأمه.